لإنتاج الخبز.. التموين: توفير الدقيق المدعم ل30 ألف مخبز يوميًا    الجيش الإسرائيلي يقوم بعملية اقتحام واسعة للمنطقة الشرقية في مدينة نابلس    بينهم 3 أطفال.. استشهاد 8 فلسطينيين في قصف إسرائيلي بخان يونس    متى تفتح العمرة بعد الحج ومدة صلاحية التأشيرة؟.. تفاصيل وخطوات التقديم    بدون إصابات.. حريق في الطابق الخامس بمستشفى مدينة نصر    طقس اليوم.. شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    استشهاد 8 بينهم 3 أطفال فى قصف إسرائيلى على منزلين بخان يونس    أمين سر خطة النواب: أرقام الموازنة العامة أظهرت عدم التزام واحد بمبدأ الشفافية    التعليم: مصروفات المدارس الخاصة بأنواعها يتم متابعتها بآلية دقيقة    عماد الدين أديب: نتنياهو الأحمق حول إسرائيل من ضحية إلى مذنب    انعقاد اجتماع وزراء خارجية كوريا الجنوبية والدول الأفريقية في سول    أفشة: هدف القاضية ظلمني.. وأمتلك الكثير من البطولات    ارتبط اسمه ب الأهلي.. من هو محمد كوناتيه؟    أفشة يكشف عن الهدف الذي غير حياته    "لقاءات أوروبية ومنافسة عربية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    الغموض يسيطر على مستقبل ثنائي الأهلي (تفاصيل)    حماية المستهلك: ممارسات بعض التجار سبب ارتفاع الأسعار ونعمل على مواجهتهم    اليوم.. البنك المركزي يطرح أذون خزانة بقيمة 500 مليون دولار    موعد ورابط نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة جنوب سيناء    السكك الحديد: تشغل عدد من القطارات الإضافية بالعيد وهذه مواعيدها    متحدث الوزراء: الاستعانة ب 50 ألف معلم سنويا لسد العجز    أحداث شهدها الوسط الفني خلال ال24 ساعة الماضية.. شائعة مرض وحريق وحادث    سماع دوي انفجارات عنيفة في أوكرانيا    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلين شرق خان يونس إلى 10 شهداء    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب "إيشيكاوا" اليابانية    «مبيدافعش بنص جنيه».. تعليق صادم من خالد الغندور بشأن مستوى زيزو    خوسيلو: لا أعرف أين سألعب.. وبعض اللاعبين لم يحتفلوا ب أبطال أوروبا    أفشة ابن الناس الطيبين، 7 تصريحات لا تفوتك لنجم الأهلي (فيديو)    تعرف على آخر تحديث لأسعار الذهب.. «شوف عيار 21 بكام»    محافظ بورسعيد يودع حجاج الجمعيات الأهلية.. ويوجه مشرفي الحج بتوفير سبل الراحة    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    «زي النهارده».. وفاة النجم العالمي أنتوني كوين 3 يونيو 2001    أسامة القوصي ل«الشاهد»: الإخوان فشلوا وصدروا لنا مشروعا إسلاميا غير واقعي    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    «رئاسة الحرمين» توضح أهم الأعمال المستحبة للحجاج عند دخول المسجد الحرام    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    تكات المحشي لطعم وريحة تجيب آخر الشارع.. مقدار الشوربة والأرز لكل كيلو    إنفوجراف.. مشاركة وزير العمل في اجتماعِ المجموعةِ العربية لمؤتمر جنيف    «أهل مصر» ينشر أسماء المتوفين في حادث تصادم سيارتين بقنا    جهات التحقيق تستعلم عن الحالة الصحية لشخص أشعل النيران في جسده بكرداسة    منتدى الأعمال المصري المجري للاتصالات يستعرض فرص الشراكات بين البلدين    العثور على جثة طالبة بالمرحلة الإعدادية في المنيا    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم دراجتين ناريتين بالوادي الجديد    تنخفض لأقل سعر.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الإثنين 3 يونيو بالصاغة    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    دراسة صادمة: الاضطرابات العقلية قد تنتقل بالعدوى بين المراهقين    سعر المانجو والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الإثنين 3 يونيو 2024    محمد أحمد ماهر: لن أقبل بصفع والدى فى أى مشهد تمثيلى    إصابة أمير المصري أثناء تصوير فيلم «Giant» العالمي (تفاصيل)    الفنان أحمد ماهر ينهار من البكاء بسبب نجله محمد (فيديو)    استقرار سعر طن حديد عز والاستثمارى والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 3 يونيو 2024    رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني يعلق على تطوير «الثانوية العامة»    حالة عصبية نادرة.. سيدة تتذكر تفاصيل حياتها حتى وهي جنين في بطن أمها    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة 23 يوليو .. أخطاء أم خطايا ؟!!
نشر في الأيام المصرية يوم 26 - 07 - 2012

( من لم يتعلم من التاريخ تتعطل خطواته نحو المستقبل )
قول مأثور
عام 1970 م عندما توفى جمال عبد الناصر , كان عمري 6 سنوات , وجلست أبكى طوال مساء هذا اليوم خوفاً من دخول اليهود إلى مصر بعد موت عبد الناصر . كان هذا تفكيري وأنا طفل صغير وسط هذا الجو المشحون , الذى توقفت فيه كل من برامج التلفزيون والإذاعة واقتصرت على آيات القرآن الكريم وأغنية " الوداع يا جمال يا حبيب الملايين" ؛ والذى ظهرت فيه عبارة تقول : ( أن القوالب نامت, والنُصاص قامت ) , وطبعاً كان المقصود بالقوالب: عبد الناصر, والمقصود بالنُصاص : السادات .
وعندما قامت حرب أكتوبر ؛ قت بملء كراسات الرسم بمشاهد الدبابات التي تعبر على الكباري لتصل إلى الضفة الأخرى من القناة , مخترقة خط بارليف والنقاط الحصينة .
وعندما سافر السادات إلى القدس كنت يومها في بيت جدي بمنطقة الشاطبى بالإسكندرية , وكانت الأسرة كلها مجتمعة أمام التلفزيون . وعندما تطرق السادات فى خطابه أمام الكنيست إلى تاريخ الأنبياء في المنطقة , علق أحد أفراد الأسرة عل خطابه واصفاً إياه بأنه : غاوي حكايات . واستهواني هذا الوصف وبنيت عليه موقفي من السادات عندما أصبحت في سن المراهقة . وكنت أجادل المؤيدين لكامب ديفيد قائلاً : أن السادات أضاع نصر أكتوبر هباء ؛ لأن سيناء مازالت متدرجة نزع السلاح , ولا سيادة كاملة للجيش المصرى على كامل مساحتها , وأن إسرائيل ضحكت على مصر لتخرجها من النزاع العربى الإسرائيلي وتستفرد هى بالعرب .
ومع دخولى إلى كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية , بدأت قراءة الكتب الماركسية واليسارية , وكنت مبهوراً برجال وزعماء مثل ماركس وإنجلز ولينين وستالين . وقرأت كتاب كفاحي لهتلر , وكنت أعتبره عنواناً على المسيرة العظيمة لقائد تاريخى ومفكر عملاق !!
ولكننى لم أستمر بكلية الهندسة , وقمت بتحويل مساري التعليمي إلى كلية الإعلام جامعة القاهرة عام 1984 م ؛ وسافرت فى نفس العام فى رحلة سياحية إلى إنجلترا والدنمارك واليونان , وعرفت وقتها أن السفر إلى الغرب هو سفر فى الزمان وليس فى المكان , لأنه سفر إلى المستقبل الذى لم نصل إليه بعد فى المنطقة العربية , وبدأت حيرتي العقلية منذ ذلك الحين , وتمحورت حول عدة تساؤلات منها :
- كيف يكون الغرب الإمبريالي الاستعماري هو الذى يحترم حقوق مواطنيه , ويحترم العلم والعقائد وحرية التعبير , وكيف تكون كافة منجزات الحضارة العالمية الراهنة من إنتاجه ؟
- كيف يكون الإتحاد السوفيتي قبلة العدالة الاجتماعية , وحصن الدفاع ضد الامبريالية , وحامل لواء التقدمية هو الذى يقمع مواطنيه ويعصف بحقوق الإنسان , وينشر الفقر والشقاء فى كل الدول التى تسير فى ظله ؟
واستمرت حيرتى العقلية حتى أتممت دراستى بكلية الإعلام , ثم التحقت فى خضم هذه الحيرة بكلية الضباط المتخصصين بأكاديمية الشرطة ؛ لأتخرج ضابط شرطة ؛ وفى ظل مناخ العمل فى وزارة الداخلية غير المتوائم مع خلفيتى العلمية والتعليمية ؛ ازدادت حيرتى العقلية ؛ مما دفعنى إلى تطوير قراءاتي التى اتسعت كثيراً مع إعدادى للماجستير والدكتوراه . فتعرفت عن كثب على الفكر الديموقراطى وحقوق الإنسان والمجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية . وأيقنت وقتها بأن الديموقراطية هى الطريق السليم لكى تنهض مجتمعاتنا من تخلفها المذري .
وبمراجعتي لكل قناعاتي السابقة ؛ أيقنت بأن الزعماء الذين على شاكلة: جمال عبد الناصر, ليسوا إلا شخصيات تصادمية تكتسب حب الجماهير وتخلب عقولها باللعب على وتر الكراهية والتعصب , من خلال تأليب الطبقات على بعضها البعض داخل المجتمع الواحد , أو تأليب الشعب على شعوب الدول الأخرى التى تتصادم أيدلوجياً مع فكر الزعيم .
كما أيقنت ؛ نتيجة انخراطى داخل حصون الدولة البوليسية بوزارة الداخلية ؛ بأن حكم العسكر لا يمكن أن يقدم أية تنمية أو ديمقراطية أو احترام لحقوق الإنسان . وأن حكم بعض العسكر فى الدول الغربية ليس إلا استثناءً , لأنها دول راسخة ديمقراطياً وتحكمها مؤسسات وليس أفراد , و بالتالي لم يؤدى حكم ديجول لفرنسا ؛ أو إيزنهاور لأمريكا إلى عسكرة الحكم . ولكن في الدول غير الراسخة ديمقراطياً يؤدى حكم العسكر إلى تحويل البلاد إلى معسكر كبير , تحكمه قواعد السمع والطاعة والأحكام العسكرية والأوامر والتوجيهات التى لا تحتمل ولا تطيق المعارضة .
وراجعت إنجازات عهد جمال عبد الناصر فوجدتها وهماً كبيراً , لأنها إنجازات أجهضت التعددية وخاصمت الديمقراطية وقيدت الحريات وأطلقت يد الأجهزة الأمنية . ووجدت أنه لا يمكن لأي إنسان يحترم إنسانيته وإنسانية الآخرين , أن يدافع عن نظام حكم استبدادي يحتكر السلطات كلها بين يديه , ويففتح المعتقلات لتعذيب معارضيه , ويتعامل مع الجماهير بمنطق وزير الدعاية النازي جوبلز , ويضحى بمصلحة بلاده من أجل شعارات قومية ورغبة مستميتة في الزعامة لتحقيق الوحدة العربية , التي لم تصبح وحدة - بأي حال - طالما ارتهنت بزعيم أوحد وليس بزعماء متعددين . ولذلك فشلت الوحدة العربية بزعيمها الأوحد , بينما نجح الاتحاد الأوربي بزعمائه المتعددين . كما أن التصادم مع القوى الغربية المتقدمة لا يشير إلى حصافة سياسية أو ذكاء فطرى , وإنما يشير إلى رعونة واستهتار بمصالح الشعب والدولة , من أجل أيدلوجيات لا تساهم فى إطعام الناس وكسوتهم وتعليم أبناءهم ورعايتهم اجتماعياً و صحياً . وبالتالي يظل هذا الموقف المبدئي قائماً فى مجال تقييم كل من: عهد السادات وعهد مبارك , فاستمرار عدم التداول السلمي للسلطة والديمقراطية العرجاء وتزوير الانتخابات والفساد والدولة البوليسية , كلها خطايا لا يمكن التغاضي عنها عند تقييم أى نظام حكم, لأنها إهدار للقيم الإنسانية الفطرية التى فطر الله الناس عليها .
عندما وصلت لذلك الوعى الديموقراطى , أيقنت إنني يجب أن أناصب كافة المستبدين العداء , لأن الجبروت والاستبداد والظلم والطغيان ينبغى تقبيحهم فى وجدان الناس . وبالتالى لا مهادنة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وكرامته وحريته التى منحها له الله .
كما أيقنت بأن جهلي الطفولى هو الذى جعلنى أبكى يوم وفاة: عبد الناصر, لخوفي من دخول اليهود إلى مصر , رغم أن عبد الناصر كان هو السبب فى دخول الإسرائيليين لمصر , بينما كان موته وقدوم السادات هو الذى أخرجهم منها . كما أدركت أن سيناء المتدرجة نزع السلاح أفضل من سيناء المحتلة , مثلها مثل اليابان العظيمة اقتصادياً المقيدة عسكرياً . وأن إسرائيل لم تضحك على مصر بدليل استعادتنا لطابا بالتحكيم , والتزام إسرائيل حتى الآن بكافة بنود معاهدة السلام . وأن خروجنا من دائرة الصراع هو أمر بديهي , فلا صراع أبدي , ولا عداوات مستحكمة . وأن استعادتنا لأرضنا المحتلة لا يعنى تنازلنا عن دعم الآشقاء لاستعادة أراضيهم ؛ بشرط اعتناق أسلوب الواقعية السياسية ومفارقة منهج الشعارات الحنجورية .
كما أيقنت أن سذاجتي ومراهقتي الفكرية, هي التي جعلتني أنبهر بالأيدلوجية الماركسية والفكر النازي والنظرية الاشتراكية غير الديموقراطية , لأن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أكبر دليل على فساد هذا الفكر وتصادمه مع الفطرة الحقيقية للإنسان .
... أستعيد دائما هذه الذكريات فى كل عام عندا تحل ذكرى ثورة يوليو أو عندما تحل ذكرى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ؛ ويزداد يقينى فى كل مرة بأن المصريين لن يستطيعوا الانطلاق نحو المستقبل لو ظلت أقدامهم مقيدة بأكاذيب الماضى الفاحشة .
ولقد كنت أُصاب بالإحباط أثناء مشاركتى فى مظاهرات 25 يناير ؛ عندما أرى بعض المتظاهرين يرفعون صور جمال عبد الناصر وشعاراته ؛ لإننى كنت أدرك بأن الشعب المصرى يستطيع أن يسقط النظام لو امتلك إرادته ؛ ولكنه لن يستطيع أن يبنى نظاماً ديموقراطياً جديداً إلا لو امتلك وعيه .
ولذلك ينبغى علينا جميعاً محاكمة ماضينا بكل جرأة وتجرد ؛ ليس من أجل الدخول فى صراعات عبثية لتمزيق ملابسنا ؛ وإنما من أجل عدم الاستسلام لخداع الذات ؛ ومن أجل امتلاك وعينا ومن أجل إحقاق الحق ؛ ومن أجل وصف كل شخص بما يستحق . فمن الخبل أن نمجد الطغاة ونحلم بالعدل ؛ ومن السخف أن نحترم الفاشلين ونتوقع النجاح .
لذلك لن يمتلك المصريون وعيهم إلا عندما يوقنوا بأن جمال عبد الناصر وثورة يوليو قد أساءا إلى مصر وإلى الشعب المصري أكثر مما أحسنا إليها أو إليه . وعندما يعترفوا بأن جمال عبد الناصر وثورة يوليو لم يرتكبا أخطاء وانما ارتكبا خطايا ؛ دفع ثمنها أجيال وأجيال .
وبالتالى .. وحتى نمتلك وعينا .. تعالوا نتعرف معا على خطايا جمال عبد الناصر وثورة يوليو فى حق مصر والمصريين :
أولاً : على المستوى السياسى .. ضرب جمال عبد الناصر وثورة يوليو ؛ الحياة السياسية فى مقتل , وجمدا التطور السياسى الطبيعى للتجربة الحزبية فى مصر , التى مهما ما كانت عليه من فساد وضعف , فقد كان مآلها الطبيعى هو النمو والازدهار وليس التجميد و الانحسار . ولم يكن الاتحاد الاشتراكى بأى حال بديلاً طبيعياً للتجربة الحزبية , بل كان تنظيماً شمولياً يقوم على مبادئ الانتهازية السياسية وتأليه الحاكم الفرد وتمرير السياسات الاستبدادية . ومازال الضعف الذى تعانى منه الحركة الحزبية فى مصر حتى الآن نابعاً من الخطوة الكارثية التى اتخذها جمال عبد الناصر وثورة يوليو عندما جمدا النشاط الحزبى فى مصر .
ثانياً : على المستوى الاقتصادى .. دمر عبد الناصر وثورة يوليو ؛ التجربة الرأسمالية الوليدة فى مصر والتى كانت تحتاج إلى المزيد من العدل الاجتماعى الذى كان سيتولد مع التطور السياسى للحركة الحزبية والعمالية والنقابية , ولكن سياسات التأميم نصبت العسكر على مقاعد الإدارة فى المصانع وحلت عقلية الأوامر والتوجيهات الصارمة محل عقلية المرونة والتفكير العملى لدى رجال الأعمال , ولم تصنع التجربة الناصرية لا الإبرة ولا الصاروخ , وإنما فبركت سيارة مسخرة تسمى ( رمسيس ) كانت عنواناً على بؤس التجربة الصناعية لحكم العسكر . ولعل الطفرة التى حدثت فى الخطة الخمسية الأولى لم تكن إلا من نتاج التراكمات المالية من تأميم الملكيات الصناعية , وليس من نتاج قاعدة إنتاجية نشيطة تملك خلفية البحث العلمى والعقلية الابتكارية .
بينما أدى قانون الإصلاح الزراعى إلى تخريب الاقتصاد الزراعى فى مصر عندما تم تفتيت الملكيات الزراعية وتوزيعها على الفلاحين بواقع خمسة أفدنة للفلاح , ونسى جمال عبد الناصر بأن الشريعة الإسلامية من خلال نظام المواريث تؤدى إلى تفتيت الملكية . وبالتالى فإن الفلاح الذى حصل على 5 أفدنة ستتفتت ملكيته الصغيرة لتتحول إلى بضعة قراريط يمتلكها أبناءه , وبالتالى انهار النشاط الزراعى الذى لا ينمو - وفقا لبديهيات الاقتصاد الزراعى - إلا فى ظل الملكيات الكبيرة .
وكانت كارثة الكوارث فى تجربة الحكم الناصرى وثورة يوليو ؛ تتمثل فى تخفيض إيجارات المساكن وتجريم خلو الرجل , الأمر الذى أدى إلى هروب المستثمرين من بناء المساكن للإيجار والتحول إلى نظام التمليك , وبدلاً من أن يدفع المواطن جزء من راتبه لكى يستأجر شقة , أصبح مطلوباً منه أن يدفع ثروة لن يجمعها إلا بعد 40 سنة لكى يحصل على مسكن . بينما تحولت العقارات القديمة التى أصابتها التخفيضات فى القيمة الإيجارية إلى خرابات لا يمكن لملاكها صيانتها نتيجة الأجرة الزهيدة و امتداد عقود الإيجار للمستأجرين إلى ما لا نهاية . وسيذكر التاريخ أن المناطق العشوائية و كل الضحايا الذين ماتوا تحت أنقاض العقارات القديمة المنهارة أو العقارات التمليك التى تم بناءها بعد ذلك فى عصر الانفتاح , كلها معلقة فى رقبة عبد الناصر وثورة يوليو نتيجة السياسة الكارثية فى مجال الإسكان , التى أدت إلى أزمة إسكان مستحكمة ليس لها مثيلاً فى أى مكان بالعالم ومازالت توابعها تتراكم يوماً بعد يوم .
ثالثاً : على المستوى العسكرى .. تم استنزاف الجيش المصرى من خلال تنصيب قيادة عشوائية على قمته تتمثل فى عبد الحكيم عامر وزير الدفاع ؛ و من خلال توريطه فى نزاعات خارجية مثل حرب اليمن ؛ ومن خلال بريق المناصب المدنية التى رأى العسكريون أن أقرانهم يغترفون فيها من ذهب السلطة وبريقها وهيلمانها بعيداً عن جفاء الحياة العسكرية وصرامتها . وبالتالي أصبح الجيش المدخل للعمل السياسي أو الاقتصادي وليس العسكري , مما أصاب المؤسسة العسكرية المصرية في مقتل تجلت أولى نذره فى يونيو 1967م .
رابعاً : على المستوى الاجتماعي .. أسس عبد الناصر وثورة يوليو ؛ لفوضى طبقية كانت هى المسئولة عن تدمير الطبقة الوسطى فى مصر وليس كما يدعى غلاة الناصرية بأن سنوات الانفتاح هى المسئولة عن ذلك . فالطبقة ليست مجرد تراكم مالى وإنما هى تراكم فى العادات والتقاليد والقيم والأصول , وبالتالي فإن تدمير طبقة ما يعنى تدمير كل تلك الجوانب التى هى جزء من تراث أى أمة , ويتعجب الإنسان من ارتباط الطبقة التى دمرها عبد الناصر وثورة يوليو بعدد كبير من الإنجازات العظيمة فى المجالات الفكرية والفنية والمعمارية والتعليمية والخيرية والسياسية والاقتصادية . ولهذا كان تدمير الطبقة بمثابة تدمير لكافة منجزاتها , وكأن علينا أن نبدأ دائماً من الصفر كلما جاء فرعون دمر آثار الفرعون السابق . ولقد أدت الفوضى الطبقية إلى ترييف المدن فزحفت قيم القرية إلى المدينة , رغم أن قيم القرية لا تصلح إلا للقرية وقيم المدينة لا تصلح إلا للمدينة , و تكفل من بعد ذلك عصر السادات بأن تزحف قيم المدينة إلى القرية , وهكذا تم ترييف المدينة فتخربت المدن ؛ وتم تمدين القرية ففسدت القرى ؛ ثم تكفل عهد مبارك بتدمير أى قيم باقية لتتساوى القرية والمدينة فى شيئين لا ثالث لهما هما : الفساد والعشوائية .
خامساً : على مستوى العلاقات الدولية .. وهو الوهم الذى يوجع به أدمغتنا الناصريون والقوميون العرب ؛ بأن العرب كان لهم عزة وكرامة أمام باقى الأمم بفضل عبد الناصر وسياساته الخارجية . ولا أدرى ما هو معنى العزة والكبرياء والكرامة فى العلاقات الدولية . فالسياسة هى : علم إدارة المصالح والأصول الوطنية وتنظيم المجتمعات الإنسانية . وفى الفقه السياسى المصلحة هى الإستراتيجية والولاء هو التكتيك ؛ فأينما وُجدت المصلحة اتجه مؤشر الولاء ؛ وبالتالى لا توجد فى السياسة صداقات دائمة أو عداوات مستحكمة وإنما صديق الأمس يمكن أن يكون عدو اليوم ؛ وعدو اليوم يمكن أن يكون صديق المستقبل . و لكن جبال الكبرياء مثل عبد الناصر يديرون العمل السياسى وكأنه قضية شخصية وكرامة ذاتية ؛ وبالتالى تندلع الحروب و تسيل دماء الشباب و تتخرب المدن و يتم تهجير سكانها ؛ وكل ذلك من أجل كبرياء وعناد رجل واحد . فأى كرامة تلك عندما يتحكم فى أمة أو شعب كبرياء رجل واحد , أى كرامة تلك عندما ترتهن مصائر الشعوب بالكرامة الشخصية لفرد يمكن أن يخطئ كما يمكن أن يصيب . و بالتالى كانت النتيجة الطبيعية لذلك الكبرياء الذى لا يسمع إلا صوت صاحبه أن يتم مسح الأرض بكرامتنا جميعا فى يونيو 67 نتيجة عشوائية المشير وعناد جبل الكبرياء , و باتت مصر دولة مهزومة معزولة على المستوى الغربى , بل و العربى , فقد خشى العرب على ممالكهم وجمهورياتهم وإماراتهم من تطلعات جبل الكبرياء الى الزعامة والتحكم والتسلط ....
... من المفجع أن ترى الملك عارياً ؛ ولكن الفجيعة الآكبر أن يكون الملك عارياً والآخرين كلهم يرونه كذلك ماعدا أنت ؛ لأنه عندئذ عليك أن تتحمل سوء التفسير لوجودك منفرداً مع الملك وهو عارى.
أقول ذلك ؛ لمن مازالوا بعد ثورة 25 يناير يدافعون عن جمال عبد الناصر وثورته وزمانه ؛ وكنت أتمنى بدلاً من ان يكتب الأستاذ هيكل كتاباً عن : مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان ؛ أن يكتب كتاباً عن : عبد الناصروثورة يوليو من حلم الحرية إلى كابوس الاستبداد ..
لست من أبناء مبارك ولا من مريدي السادات , فكلهم من معين واحد ؛ عسكر فى عسكر , حكموا مصر بالحديد والنار ومكنوا الفاسدين والمستبدين والفاشلين من مقاعد السلطة , فكانت النتيجة الخراب .
كلهم سلسال واحد كان يسلم الراية لمن يليه ؛ والضحية هى مصر والشعب المصرى ..
لذلك إذا أراد الشعب المصرى أن يمتلك مستقبله ؛ فعليه أن يحاكم ماضيه ليفضح المستبدين السابقين ؛ فيمتلك وعيه ؛ فينفضح المستبدين الحاليين .......

دكتور / محمد محفوظ
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.