أصبحت عبارة "المجتمع المدني" احدي العبارات "السحرية" هذه الأيام.. حيث تلوكها الألسن بمناسبة ودون مناسبة.. ويرددها الكثيرون في سياقات مختلفة، وربما متناقضة. لكنها اصبحت في كل الاحوال جزءا لا يتجزأ من خطاب "الاصلاح" باعتبار ان هذا "المجتمع المدني" هو قاطرة الاصلاح السياسي والاقتصادي. ثم نشأ ما يشبه الارتباط الشرطي بين مصطلح "المجتمع المدني" والحصول علي "تمويل اجنبي" حتي ان تلقي هذا التمويل الاجنبي لم يعد - في معظم الاحوال - هو المشكلة من حيث "المبدأ"، بل اصبح الجدل بين المستفيدين منه ينصب علي التنابذ بالجهات "المانحة" وشروطها، حيث اصبح من الشائع ان تجد من يدافع عن التمويل الاجنبي لانه جاء من الدانمارك - مثلا - وليس من أمريكا، أو منظمات غير حكومية "شقيقة" في البلدان الاسكندنافية وليس من مؤسسات حكومية في دول استعمارية عريقة أو "محدثة" في التاريخ الاستعماري. وزاد من بلبلة الجدل حول هذه القضية ان الحكومة التي تضع تلقي المساعدات والمعونات من الخارج علي جدول اعمالها فتتعامل مع قضية التمويل الاجنبي لمؤسسات اهلية مصرية بطريقة انتقائية، فتغض الطرف عنها - بل وتباركها- لبعض الجمعيات التي تنخرط في انشطة تأتي علي هواها، وتنتقدها عندما يتجه هذا التمويل الاجنبي لجمعيات اخري لا تستريح لها أو لانشطتها، خاصة اذا كانت هذه الانشطة تتجه الي مجالات سياسية تتناقض مع اولويات الحكومة والحزب الوطني. ورغم ان الحكومة ليست علي صواب دائما، فان شكوكها ازاء هذه المسألة - أي العلاقة غير البريئة للتمويل الاجنبي ببعض المنظمات غير الحكومية - قد اكتسبت قوة دافعة - اثر عدد من التجارب في الدول الاخري، ومنها - علي سبيل المثال - ما جري في أوكرانيا - حيث نقل عبد الملك خليل مراسل الاهرام المخضرم في موسكو عن صحيفة "ترود" الروسية في الشهر الماضي وثيقة مهمة جاء فيها ان الولاياتالمتحدة والمانيا ودولا غربية اخري قد زرعت في اوكرانيا 339 منظمة دولية و421 منظمة خيرية و179 منظمة غير حكومية لدعم وتأييد فيكتور لوشينكو في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 21 نوفمبر الماضي. واكدت الصحيفة الروسية ان "اتعاب" كل منظمة من هذه المنظمات في الاسبوع الواحد تتراوح ما بين 300 و500 ألف دولار وتمول هذه المنظمات وكالة المخابرات الامريكية والالمانية والبولندية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات المشتركة الغربية والاوكرانية العاملة في اوكرانيا. ورغم خطورة هذه الشكوك، التي تتجاوز مرحلة الشك بكل تأكيد، فان هذا الموضوع ظل من الموضوعات "المسكوت عنها" في اغلب الاحيان، ربما لان معظم الجهات التي يفترض فيها انها الاولي بتناوله هي نفسها تتلقي تمويلا اجنبيا. لذلك كانت سعادتي كبيرة عندما وصلني كتيب فقير الحال، ومطبوع طباعة رديئة باخراج فني بائس، صادر عن جمعية حقوق الانسان بالاسكندرية ومركز العدالة للدراسات السياسية والاجتماعية والرابطة الشعبية لمقاومة الامبريالية والصهيونية، يتناول هذه القضية المسكوت عنها. وفي مقدمة هذا الكتيب الغلبان يقول الدكتور جمال عبد الفتاح ان "قضية المنظمات غير الحكومية الممولة ليست قضية افراد وحسن نواياهم من عدمه، او في مواقفهم المعلنة من قضايا الديمقراطية او غيرها.. وانما القضية هي طبيعة الدور الذي تلعبه هذه المنظمات". ويمسك جمال عبدالفتاح ببداية خيط منطقي وبسيط هو ان "الممول لن يستمر في تمويله لمنظمة او منظمات لا تتوافق مع سياسته واهدافه.. فهو ليس جهة خيرية تعمل لوجه الله والانسانية". ويقطع الطريق علي المبررين لتلقي هذا التمويل فيقول انه "لا يمكن ان يكون الضعف او انعدام التمويل المحلي لمثل تلك الانشطة والخدمات المحدودة التي تقوم بها تلك المنظمات سببا لتسهيل الاختراق". وبعد هذه المقدمة البسيطة والمباشرة، تقدم الدكتور سهير مرسي دراسة بالغة العمق لظاهرة "المجتمع المدني بين القدسية الليبرالية والتسويق النيوليبرالي للديمقراطية"، وتتعقب النشأة التاريخية لهذا المصطلح المراوغ "الذي اصبح يرمز الي كل شيء ويعني ذلك لا شيء". وتكرس سهير مرسي بحثها القيم للاجابة عن الاسئلة المحددة التالية: * لماذا يميز مفهوم "المجتمع المدني" علي غيره من المفاهيم التي ارتبطت بهذا المجال من النشاط الانساني؟ * لماذا تعطي الاولوية الانتقائية للمنظمات غير الحكومية في صياغة مفهوم "المجتمع المدني" من قبل مؤسسات التمويل بينما توجد في أدبيات العلوم الاجتماعية سواء التاريخية او الحديثة، اشارات عديدة لمجالات انشطة اخري مرتبطة بهذا المفهوم مثل الاحزاب السياسية والنقابات والنوادي والجمعيات التعاونية العلاجية والاعلام؟