صديقي الفنان بسمي ميلاد الساكن في مدينة تامبا بولاية فلوريدا يستيقظ كل صباح ليذهب إلي المطبعة التي يملكها، ولابد أنه يفكر في بعض اللحظات في رحلة الثلاثة وأربعين عاما التي عاشها بالولاياتالمتحدة رفضا للحياة في القاهرة التي أعطاها كل إخلاصه، ولم تمنحه سوي الجحود في كثير من الأحيان، لكن قلبه الذي كان قبلة المحبة للعديد من أبناء جيلينا كانت تدفعه كل مساء ليجمعنا في منزله الكائن في شارع عمر بن الخطاب بمصر الجديدة، وكانت زوجته المحاسبة اللامعة ببنك الإسكندرية سهير جريس تعتني بنا جميعا، خصوصا كاتب هذا السطور أعظم مستدين من كل بنوك مصر ولكنه قادر دائما علي السداد، ومعي توءم روحها الطبيب الجراح فؤاد بشاي ميخائيل زوج صديقتها الأثيرة طبيبة الأسنان شادية لبيب سوريال، وحين فوجئنا بوصول قبول طلبات الهجرة التي قدمها كل من فؤاد وبسمي أيقتت أني سأعاني من الوحدة الصعبة، فكل منهما يمثل جزءا كبيرا من ضميري وإحساسي بأنه من غير المطلوب مني أن أتكلم حتي يفهمني أحد، فقد كانت نظرة واحدة من فؤاد أو بسمي أو مني قادرة علي أن تنقل آلاف الحقائق التي لا تحملها الكلمات، وأحسست أني فقدت فرصة الاستماع إلي كونشيرتو البيانو رقم واحد لتشايكوفسكي، ولن أشاهد لعب بسمي بالألوان الزيتية التي أهدتها له السيدة جمالات شقيقة الراحل العظيم فنانا الكبير كمال خليفة، وكان لعب بسمي بالألوان يحكي حكاية واحد من الملونين العظام علي مدي التاريخ المصري الحديث، ولوحة الألوان غالبا ما تكون تجريدية، لكنها تملك خصوصية منح العين حكايات وحكايات، فهي تنقي الروح تماما. طبعا تعاهدنا علي أن نتراسل وكانت الخطابات بيننا قليلة لكنها تحمل الكثير من الأفكار والرؤي، وطبعا كان بسمي هو الوحيد الذي لم يزر مصر منذ هجرته، عكس زوجته سهير التي زارت القاهرة ثلاث مرات، أما فؤاد بشاي فقد ارتبط بأسرة اللوتس بطلب القاهرة التي أسست وجدانه الموسيقي، وهي دفعة من كلية الطب يندر وجود مثيل لها من فرط تفوق أعضائها فضلا عن تعدد هواياتهم الفنية. وطبعا تعددت رحلاتي إلي الولاياتالمتحدة، لا لشيء إلا لأجلس مع الجراح الذي يملك رؤية فريدة للكون وهو فؤاد بشاي، ولأرتوي من عناق الألوان التي يضعها بسمي في لوحاته، خصوصا أن السماء في قرية تامبا تمنحه كل يوم منافسة شرسة بين ألوانه وألوان السحاب الذي تتغير درجات الألوان فيه كل لحظة. وأخيرا جاء التواصل الإلكتروني، فصرت أتراسل مع بسمي عبر الإنترنت بالرسائل، ولكن منذ اكتشاف التواصل عبر الإسكايب، صار من السهل أن أتحدث مع فؤاد مرتين أو ثلاثاً أسبوعيا، أما بسمي، فهو مازال رافضا للإسكايب، لعله يعلم أن الرؤية عن بعد لن تمنح القلب نفس الحميمية التي ينالها الأصدقاء باللقاء المباشر، ولكن بما أن الإسكايب يمكن أن ينقل اللوحات، لذلك فأنا أطلب من بسمي ألا يحرمني من رؤية لوحاته وأن يقوم بتركيب برنامج الإسكايب علي الكومبيوتر الخاص به، ويا بسمي أنت تعلم أن لوحاتك تغسل الروح التي تجيد أنت قراءة أسرارها بألوانك، فلا تحرمنا من تلك العملية التي تخفف عن أمثالي ضغوط الحياة في القاهرة المجنونة بالتوتر التي أحيا فيها. منير عامر