يبذل جهاز المخابرات المصرية جهودا حثيثة لاقناع كل من حركات المقاومة الفلسطينية واسرائيل، بالعودة إلي التهدئة التي كانت سائدة قبل موجة التصعيد الأخيرة. الجانب المصري هو الذي بادر بالتوسط لدي الطرفين لاعادة التهدئة، رغم أن كل المؤشرات تؤكد أن اسرائيل غير معنية بالتهدئة حاليا، ومن هنا يجد المصريون صعوبة في الحصول علي تعهد من جميع الفصائل الفلسطينية بوقف اطلاق النار. لكن باغتيالها القائد الميداني في حركة حماس أحمد الجعبري، فقد عادت اسرائيل فعليا لممارسة سياسة الاغتيال للقادة الميدانيين والسياسيين الفلسطينيين، خاصة بعد موجة التصعيد الجديدة ضد قطاع غزة منذ أكثر من أسبوع، والتهديد المتواصل بضرب المقاومة بيد من حديد، وتنفيذا لأحد الخيارات التي تدرسها اسرائيل للرد علي اطلاق الصواريخ الفلسطينية من قطاع غزة. اسرائيل بدورها تدرس عدة خيارات للرد علي عمليات اطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وكان من بين هذه الخيارات العودة إلي سياسة اغتيال قيادات التنظيمات السياسية بما فيها حركة حماس التي تتولي إدارة شئون قطاع غزة، فدوائر صنع القرار في تل أبيب باتت مقتنعة بأنه يتوجب عمل أي شيء من أجل عدم السماح بإبقاء المستوطنين في محيط القطاع في الملاجئ والغرف المحصنة، علاوة علي توقف العملية التعليمية والحياتية لديهم، ومن هنا تري اسرائيل أنه لم يعد هناك بد من اجتياح بري لقطاع غزة، وأن إعادة احتلال غزة باتت حتمية وهي مسألة وقت لا أكثر. ما يعزز هذه الفرضية تصريحات وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك الذي أعلن أن غزة ستشهد مزيدا من الهجمات، وستكون بؤرة ملتهبة ضد المقاومة، وتزايد الاصوات المؤيدة للحرب علي غزة وتصاعد وتيرتها في اسرائيل، فقد طلب وزير القضاء الأسبق "تساحي هنغبي" بعملية اجتياح واسعة مثل عملية "السور الواقي" عام 2002 التي تم من خلالها احتلال الضفة الغربية مجددا والتي لم تتوقف إلا بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات، وهو بدوره يؤيد العودة إلي الاغتيالات السياسية لرجال المقاومة الفلسطينية. واللافت للنظر أن غالبية قادة أحزاب المعارضة في اسرائيل تفوهوا بكلمات مشابهة، فقد صرح وزير الدفاع الاسبق "بنيامن بن اليعازر" أن المطلوب حاليا هو تصعيد العمليات العسكرية في الجنوب، وأن علي الحكومة أن ترد بقسوة وأن يكون الرد قاطعا حتي تستعيد اسرائيل مبدأ الردع في إشارة إلي احتمال إعادة احتلال غزة، وقالت رئيسة حزب العمل "شيلي يحيموفتش" إن الهدوء لن يعود إلي الجنوب من دون تصفية قادة حماس وغيرها من منظمات المقاومة الفلسطينية، ودعا رئيس حزب "يش عتيد" الجديد يائير لبيد إلي تصفية قادة كل تنظيم يطلق قذيفة. وفي اتجاه آخر تكثف وزارة الخارجية الاسرائيلية جهودها في تنظيم حملة واسعة لحشد الرأي العام العالمي ضد حكومة حماس، ويعد ذلك تأكيدا لما قاله شاؤول موفاز رئيس حزب كديما والذي شغل منصب وزير الدفاع في حكومة ارئيل شارون وقاد الاجتياح في عام 2002، بأن علي الحكومة أن توفر لنفسها أولا قاعدة تأييد عالمية ثم تجتاح قطاع غزة. لقد بدت الأجواء العامة في اسرائيل مهيأة لشن عدوان جديد علي قطاع غزة في ظل التصعيد العسكري، ودعوات قادة الأحزاب المختلفة الداعمة لأي عمل عسكري تختاره الحكومة، وتوجت هذه الأجواء بتهديدات وزير الدفاع ايهود باراك لحكومة حماس بأنها ستدفع ثمنا باهظا وموجعا، وسبقه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتحذيراته من أن اسرائيل مستعدة للتصعيد ردا علي موجة العنف الجديدة علي طول الحدود مع قطاع غزة. واختلفت قراءات المعلقين الاسرائيليين للخطوات التي تقدم عليها حكومتهم، فمنهم من توقع اجتياحا بريا محدود النطاق، وآخر توقع أن تعود اسرائيل إلي سياسة الاغتيال للقادة الميدانيين في قطاع غزة لتكون رسالة ردع للقادة السياسيين في حركة حماس. وقد ساهمت تصريحات مختلف الوزراء وقادة الأحزاب في اسرائيل لتهيئة الرأي العام المحلي والدولي لاحتمال شن هجوم عسكري علي غزة، في اطار الضغوط التي يتعرض لها نتنياهو من الاحزاب اليمينية المتطرفة ضمن الاجواء الانتخابية التي تعيشها اسرائيل، فعدوان عام 2008 علي غزة الذي عرف بعملية "الرصاص المصبوب"، وقع عشية الانتخابات العامة الأخيرة. لكن ثمة معضلة تواجهها اسرائيل تتمثل في ألا يتسبب أي عمل عسكري ضد القطاع في سقوط حركة حماس، وحلول جهات أكثر تطرفا في الحكم، فغاية ما تسعي إليه اسرائيل هو ضمان وقف اطلاق النار من القطاع لأمد طويل، والأمر قد يتحقق من خلال إلحاق اضرار جسيمة بالبني التحتية للسلطة هناك والقواعد العسكرية لحركتي حماس والجهاد الاسلامي، بالاضافة إلي أن الواقع السياسي في المنطقة اليوم يختلف عن ذاك الذي ساد المنطقة عشية الحرب السابقة علي غزة، فاسرائيل ستأخذ في حسبانها رد فعل النظام المصري الجديد، واحتمال مواجهة سياسية معه، كما أنه ليس أكيدا أن يكون هناك تفهما أمريكيا وأوروبيا كاملا لشن عملية عسكرية واسعة رغم التصريحات الأمريكية المؤيدة لحق اسرائيل بالرد علي أي عدوان. ومن هنا لم يبق أمام الحكومة الاسرائيلية سوي ثلاثة خيارات : إما أن تدخل في حرب اجتياح شامل لقطاع غزة، وإما أن تبلع هذه الضربة وتقبل باتفاق هدنة مع حماس، وإما أن يستمر الوضع الحالي الذي يضطر فيه سكان بلدات الجنوب إلي الاختباء في الملاجئ بشكل مستمر.