التصريحات الصادرة عن البنك المركزي مرارا وتكرارا تؤكد وتجزم وتشدد علي أنه لم يتم طبع نقود، بل إنه لم يتم طبعها منذ تسع سنوات كاملة! وتزداد حيرة الاقتصاديين وكل عارف بالشأن الاقتصادي؛ لأن المعلومات المصرفية تفيد بعكس ذلك. وظاهرة طبع النقود عادة ما تلجأ إليها بعض الحكومات كوسيلة لكسر شح السيولة خلال فترات الأزمات حتي تتحرك الأسواق المنكمشة وتكسر حاجز الركود، وهذا الحل يعارضه كثير من الاقتصاديين؛ لأنه يتسبب في زيادة التضخم وتعويم سعر العملة المحلية. في تونس التي تعيش أزمتنا نفسها، اندلعت معركة ضارية في الشهور الماضية بين فريقين: الفريق الحكومي الذي يري ضرورة طبع النقود كإجراء مؤقت للتنشيط الاقتصادي في انتظار دوران عجلة الإنتاج باعتبارها الحل الجذري لأزمة الانكماش، في حين يرفض فريق من الاقتصاديين المرموقين تماما اتخاذ مثل هذا الإجراء وعلي رأسهم محافظ البنك المركزي التونسي مصطفي نابلي.. وقد أدت هذه المعركة في النهاية إلي استقالة المحافظ مصطفي النابلي رغم صحة ورجاحة موقفه؛ لأن الرياح هناك تسير علي هوي الحكومة الإسلامية التي تريد العبور من محنتها بأي تكلفة أو ثمن.. والنابلي هو شخصية معروفة علي الصعيد الدولي حيث كان خبيرا في البنك الدولي وعمل به لسنوات طويلة، إلي أن اقتضي الأمر عودته إلي تونس خلال الثورة تلبية لدعوة من رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك.. ومن يعرف النابلي لا بد أن يحترمه ويجل علمه، فهو عندما يعارض إجراء مثل ذلك فلا بد أنه يعلم فداحة التكلفة التي ستؤثر تداعياتها بشكل كبير علي الاقتصاد التونسي. في مصر لدينا المعركة نفسها، غير أنها خفية وليست ظاهرة.. فمحافظ البنك المركزي ينفي مرة تلو أخري خبر طبع النقود، والمصرفيون لا يصدقون.. ويبدو أن لديهم من الحقائق والحجج ما يبرهنون به علي عدم صحة النفي الصادر عن البنك المركزي، ولأن الشفافية لاتزال غير متوافرة وهي متوارثة منذ عهود ماضية، فإن الميل دائما إلي عدم تصديق الجهات الرسمية. وأستشهد في هذا السياق بالمصرفي المرموق أحمد آدم، وهو ذو علم وخبرة ومصداقية ووطنية لا يداخلها الهوي، وذلك بشهادة مصرفيين عالميين، وأستند إلي الدراسة التي أعدها والتي حملت عنوان "إهدار قيمة الجنيه المصري" لأجدد التأكيد علي ما ذكرته بخصوص أن البنك المركزي المصري كثف وبشكل غير مسبوق من طباعة النقدية بعد الثورة. ففي شهر واحد هو فبراير 2011 تم طبع 22 مليار جنيه واستمر النقد المصدر والمطبوع في الزيادة وبشكل واسع حتي بلغ نهاية ديسمبر الماضي 190.1 مليار جنيه، فيما بلغ في يناير 2011 ما قدره 2.156 مليار جنيه أي أن طباعة البنك المركزي لأوراق نقد وبدون غطاء زادت معها النقدية المصدرة والمتداولة خلال عام 2011 وهو عام الثورة بمقدار 34 مليار جنيه! أحمد آدم يضعنا أمام حقيقة خطيرة وهي استمرار البنك المركزي في طباعة نقدية أيضا خلال العام الجاري 2012؛ حيث بلغ ما تمت طباعته من نقدية خلال الأشهر الستة الأولي من العام الحالي 17 مليار جنيه ليبلغ إجمالي النقد المصدر خلال عام ونصف العام 51 مليار جنيه.. ومن هنا نستطيع في ضوء هذه المعلومات أن نفسر ظاهرة تعيشها مصر خلال الشهور الماضية ولم نكن نجد لها تفسيرا كافيا وهي ظاهرة زيادة أسعار السلع بشكل صاروخي ويشكو منها كل المواطنين ويئنون تحت وطأتها.. تحدثت مع الأستاذ أحمد آدم لأحاول الاستفسار عن تفاصيل جاءت في الدراسة القيمة، فجدد تأكيده مرة أخري علي أن الزيادة في قيمة النقد المصدر والمتداول في عام الثورة بلغت 53% من قيمة الزيادة التي تمت في عهد حكومة نظيف والتي امتدت لأكثر من 6 سنوات، وهو أمر في منتهي الخطورة وأسبابه الحقيقية تتمثل في ضياع الفوائض المالية التي كانت موجودة بالبنوك المصرية حتي نهاية 2008 في تمويل عجز الموازنة وبالتالي فإن أي طلب علي تمويل يقابل بطبع نقدية من قِبل البنك المركزي! ويري آدم أن الوصول إلي هذا الوضع الخطير نتيجة الإدارة السيئة وغير المسئولة للسياسة النقدية من قبل البنك المركزي والتي أدت إلي بقاء سعر الفائدة سلبيا وعلي امتداد أكثر من خمس سنوات متتالية أمام معدلات التضخم، وهو ما أدي بدوره إلي تآكل الودائع البنكية للعملاء فانخفضت معدلات نموها بدءا من عام 2009 وبشكل ملحوظ لما دون 9%، في المقابل زادت وبشكل كبير معدلات نمو الديون المحلية بدءا من الفترة نفسها أي 2009 وتجاوزت ال 14% نتيجة للزيادات المتتالية في عجز الموازنة ومع قيام البنوك بتمويل هذا العجز في الموازنة، عن طريق استثمارها في أذون وسندات الخزانة التي تطرحها وزارة المالية ومع عدم سداد الحكومة للمستحق من هذه الأذون والسندات وقيامها بسداد أذون وسندات مستحقة الدفع بطروحات أخري جديدة من الأذون والسندات فقد نضبت السيولة الموجودة بالبنوك ووصلت لأدني مستوياتها. هذا الوضع هو أكثر ما يخيف الاقتصاديين؛ لأنه يؤدي دائما إلي انهيارات مدوية، كما حدث في الأزمات المالية العالمية في التاريخ المعاصر التي هزت دولا وأفلست فيها مؤسسات كبري بل دول في لمح البصر، ويبدو أن البنك المركزي مستمر في تجاهل تحذيرات الاقتصاديين والمصرفيين الصادقين من أمثال أحمد آدم.. ولكن من حق الرأي العام أن يعرف الحقيقة، ولا بد أن نعرف من أعطي الإذن للبنك المركزي بطباعة النقدية، وهل متخذ ذلك القرار يعلم مساوئ ذلك، وهل من حق البنك المركزي أن يستمر في سياسة طباعة النقدية رغم الوضع الحقيقي للمالية المصرية حاليا، وإلي متي تظل الشفافية غائبة عن السياسة النقدية، وكيف يستمر السكوت عن هذا الوضع، وهل سيقبل المستثمر العربي والأجنبي القدوم إلي مصر وضخ استثماراته فيها، في ظل هذا الغموض حول موقف الجنيه والسياسة المالية؟!