حين دخلت متحف الفن الحديث في واشنطن، وتجولت قليلا بين بعض من الأعمال الفنية التي خلدت وستظل خالدة لأن بها من الأصالة فوق ما تتخيل أي عين. ومن بعد ذلك دخلت إلي قاعة يقال عنها أنها لفنانين كبار. ورغم ضخامة الكلمات علي فم المرشد الذي يقود الجمهور، وجدت نفسي أقول له "إن أغلب تلك الأعمال ينطبق عليها القول الشائع: دعني أكذب عليك ولابد أن تصدقني وإلا اتهمتك بالجهل. ويا سيدي أنا فرح جدا بجهلي لأن دلق الألوان علي القماش، ثم سرعة التخلي عن صناعة الجمال لا يمكن أن يسعدني". وضج الجمهور بالضحك. ووجدت أكثر من عشرة أشخاص يستحسنون قولي، ومنهم من أضاف "باسم الفن الحديث يتم تنصيب أناس علي القمة لمجرد أنهم يعبثون، إن مثل هؤلاء مثل الغشاشين الذين يبيعون لنا المياه الغازية علي أساس أنها سوائل مغذية أو مزيلة لعسر الهضم، علي الرغم من أنها سوائل ضارة بالجسم ولا تستحق نسب الأرباح المغالي فيها، والتي تحصل عليها شركات إنتاج المياه الغازية". أتذكر تلك المعاني حين أتلقي دعوة لحضور أي معرض للفن التشكيلي، وأتأمل اللوحة التي اختارها الفنان ليطبعها كنموذج لإبداعه علي بطاقة الدعوة. ودعوني أعترف أن أغلب فناني هذه الأيام يفتقدون الأصالة اللازمة، ويمارسون إنتاج لوحات هي أقرب إلي قيمة الجنيه المصري من قيمة الجنيه الذهب. وبالفارق بين قيمة الجنيهين، هو كالفارق بين القيمة التي تعلو علي مرور الأيام والقيمة التي تهبط حتي تتلاشي. وكثيرا ما يبذل الفنان من هؤلاء وقتا طويلا وهو يتكلم مع المتذوق ليبيع له الفاسد من الفن، ويظل يحكي عن أزمات الإنسان التي تفرض عليه إخراج ما في قلبه ليضعه علي اللوحة، ودائما أقول للفنان الذي من هذا النوع "ما رأيك في أن تضع جهاز تسجيل مع كل لوحة ليشرح للمشاهد كيف يستطيع تذوق لوحتك هذه؟" وعادة لا يجيب الفنان علي سؤالي، لأنه هو أول من يعلم بحقيقة النصب والعجز في أدائه الإبداعي، وطبعا لن أقدم مثل هذا الاقتراح لواحد في قامة مصطفي الرزاز أو حلمي التوني أو إبراهيم الدسوقي فهمي أو مي رفقي، لسبب غاية في البساطة هو قدرة أي فنان من هذا الطراز علي أن يترك لوحته تعبر عن نفسها بجدارة لا تحتاج إلي شرح أو تفسير. إن الجهد اللفظي في تبرير حالات الخداع باسم الفن قد يفوق أي جهد يمكن أن يبذله الفنان إن أتقن ما عليه من مسئوليات وأهم هذه المسئوليات هو التدريب المستمر علي رسم الاسكتشات، ثم البحث طوال الوقت في خريطة أعماقه علي الموضوع الذي يحب أن يعبر عنه، عندما يصل إلي الأسلوب الخاص به، فهو لن يعدم أبدا فصاحة الإبداع، فمصيبة الفن الفعلية هي أن يمنح أسراره لمن يصبرون ويتدربون وينتجون علي ضوء حقائق واضحة، فقبل رسم ما تضج به الأعماق من ألوان، لابد من إتقان ما يمكن أن تحققه قدرة امتلاك مهارات الرسام. أكتب هذا وأنا لست سوي المتلقي للفن، ولست القاضي، ولكن ذوقي الحاد هو الذي يفرض علي عدم التوجه إلي أي معرض أعلم أن كل لوحة فيه تحتاج إلي شرح لابد أن يضعه الفنان في شريط تسجيل يصحب اللوحة، علي الأقل ليضمن للمشاهد عدم معاناة الإحساس بالالتباس وعدم الوقوع في أنياب الخداع الذي يحترفه بعض العجزة ممن تزدحم بهم قاعات عروض الفن في هذه الأيام.