حين قرأت الخبر الذي أفاد بأن علماء الجيش الأمريكي حذروا جورج بوش الرئيس السابق للولايات المتحدة من عدم جدوي التعذيب في الحصول علي اعترافات، عادت بي الذاكرة إلي يوم قديم للغاية، يوم شاء إبراهيم عبدالهادي الزعيم السعدي أن يقوم بتعذيب المعتقلين من الاخوان المسلمين علي أيدي ما سماه الكاتب العظيم يوسف إدريس "العسكري الاسود". ولم يكن تعذيب إبراهيم عبدالهادي للاخوان المسلمين سوي حلقة في سلسلة في مسلسل الرد علي ملاعبة مؤسس الاخوان المسلمين للقفز علي السلطة، وجاء قتل النقراشي باشا رئيس وزراء مصر كبرهان علي سعي الاخوان إلي الحكم، ثم جاء رد النظام القائم أيامها باغتيال حسن البنا نفسه، واعتقال اغلب أعضاء جماعة الاخوان المسلمين وتعذيبهم لمعرفة اسرار تنظيمهم الذي اقترب كثيرا من اساليب تنظيم الشيعة الحديدية علي رغم أنها جماعة سنية. وبعد ثورة يوليو حاولوا من جديد ممارسة قهر النظام، فجاءت محاولة اغتيال جمال عبدالناصرفي ميدان المنشية، وتبع ذلك اعتقال العديد من أعضاء جماعة الاخوان وتعذيب العديد منهم..ولم يهدأوا فقد عادوا من جديد بعباءة تنظيم اسسه سيد قطب عبر إعادة تجميع الاخوان المسلمين، وهو ما اكتشفه جمال عبدالناصر بمجرد قراءته لكتاب " معالم في الطريق" لسيد قطب. وجاءت موجة الاعتقالات والتعذيب من جديد..كنت أنا كاتب هذه السطور قد عاصرت رحلة الاخوان المسلمين، لا لقرابة أو محبة، فكراهيتي للتعصب وعدم الثقة في أي تنظيم مهما كان وقفت حائلا بيني وبين أي جماعة أو حزب. وعندما خرج اليساريون من المعتقلات عام 1964 عرفت معني أن يقتل التعذيب رجلا في قيمة وقامة شهدي عطية صاحب واحد من أهم الكتب التي تقرأ تاريخ مصر المعاصر. وقررت أن اقاوم بتعذيب أي مواطن، فجمعت أستاذي د . سعد جلال أستاذ علم النفس، مع الصديق محمد زغلول كامل كواحد من الضباط الأحرار، وكان يعمل بشكل مباشر مع جمال عبدالناصر في رئاسة الجمهورية، وكتبنا تقريرا بعنوان "ضد التعذيب" ورفعناه إلي جمال عبدالناصر. ولم أكن انا أو أستاذي د. سعد جلال نعلم قصة الصراع الخفي بين جمال عبد الناصر وعبدالحكيم عامر. وكان شمس بدران هو الذي يقود التعذيب عبر السجن الحربي، وهذا هو السبب الاساسي لوجود شمس بدران حاليا في لندن، لانه يخشي رفع قضايا ضده بحكم ما ارتكب من تعذيب. ايقنت مع مرور السنوات أن التعذيب لا يشوه من يقع عليه التعذيب، ولكن التشويه يقع علي من يقوم به، فالجلاد هو أولي ضحايا فعله. ومن العجيب أن كل الدراسات العلمية التي تناقش هذا الموضوع تؤكد أن التعذيب قد تذهب آثاره النفسية عمن تلقاه، ولكنها تلتصق بأعماق من قام به أو امر به. ولكن الجهات التي تحمي الامن في أنحاء الكرة الارضية، لا تهدف بالتعذيب إلي الحصول علي المعلومات فقط، ولكنها تهدف إلي أن يشرب الخصم كأس الذل والمهانة. واكبر الامثلة علي ذلك ما يحدث في الاراضي الفلسطينية، حيث يتعمد الخصم الاسرائيلي إهانة الفلسطيني إلي الحد الذي لا يطاق. ولكن هل قام التعذيب وملء كأس الاهانة بمنع أي فكرة؟ علم النفس يقول إن التعذيب لا ينزع عقيدة من قلب من يؤمن بها، ولكنه قد يشوه نفسية من تلقاه ويجعله أكثر قسوة. وعلي الرغم من أن أي تعذيب لا يفيد في أي تحقيق، إلا أنه مازال يمارس من البشر ضد بعضهم البعض. وكأن حيوان الغابة مازال يسكن تحت جلد العديد من البشر.