عندما يتحول "الصحفي" إلي "رجل مطافي" فإن هذا يعني أن هناك خللاً خطيراً في البلد، بحيث أصبحنا نلهث بدون توقف وراء الحرائق، النارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا تتوقف عن الاشتعال، وما نكاد ننتهي من إخماد حريق هنا حتي ينشب حريق هناك، وما نكاد أن نضع أيدينا علي سبب آخر حريق حتي نجد أنفسنا في مواجهة طابور طويل يضم العشرات والمئات ممن يلعبون بالنار، غير عابئين بالسلم الأهلي أو السلام الاجتماعي أو الاقتصاد الوطني أو مستقبل الأمة. وبدلاً من أن نقوم بوظيفتنا الأساسية ككتاب وصحفيين في التفكير والتحليل والتناول الجاد للقضايا والتحديات الكبري التي تواجه البلاد والعباد، ومن بينها أسباب تلكؤ أو تعثر أو تراجع مسيرة الاصلاح والتغيير ووضع مصر علي طريق التحديث والنهضة والخروج من دائرة التخلف والجمود واللاعقلانية.. بدلا من ذلك نجد أنفسنا مضطرين للقيام بدور رجل المطافئ الذي يسعي إلي إطفاء حريق هنا أو منع نشوب حريق هناك. وكأن المصائب التي تأتينا من الخارج، مع تداعيات وتوابع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ومع التغيرات الإقليمية والدولية الدراماتيكية، لا تكفينا، فنتفنن نحن في اختراع مصائب محلية الصنع تحمل شهادة منشأ مصرية! وعلي سبيل المثال فإن هناك ما يشبه الاجماع بين الاقتصاديين علي مختلف مدارسهم علي أن الحرف التقليدية هي قلب المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر. وأن هذه المشروعات الصغيرة يمكن أن تكون أحد أطواق النجاة من طوفان الأزمة، وأحد الأدوات للخروج من النفق وتوفر فرص عمل لآلاف مؤلفة من جيش المتعطلين عن العمل، وتقدم إضافة إلي الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن وظيفتها في الحفاظ علي الهوية الوطنية التي تهددها عواصف العولمة المتوحشة. هذا المجال المهم للحرف التقليدية أهملته الحكومات المتعاقبة إهمالاً جسيماً حتي أصبحت كثير منها مهددة بالانقراض. وكان ممكنا بالفعل أن تندثر كثير من هذه الحرف لولا مبادرات أهلية مستميتة، من بينها جهود جمعية "أصالة" لرعاية الفنون التراثية والمعاصرة" التي أنشئت في 30 نوفمبر 1994، أي منذ خمسة عشر عاماً، علي يد كوكبة تجمع بين الفنان التشكيلي والفنان الحرفي التقليدي بهدف التأصيل والابداع وتعميق مفهوم الهوية الثقافية وارتباط الفن بالمجتمع. هذه الجمعية المتميزة التي ظهرت إلي الوجود بفضل جهود الفنان الكبير عزالدين نجيب، وزملائه، وضعت لنفسها أهدافاً محددة من بينها: * الحفاظ علي التراث الفني وطابع الأصالة في مجالات الابداع التشكيلي بشقيه التقليدي والحديث. * العمل علي تنمية وإنشاء مراكز متخصصة للإنتاج في مجالات الفنون التشكيلية والحرفية وتشجيع الفنانين والكشف عن الموهوبين وتدريب أجيال جديدة بالتعاون مع الهيئات والوزارات المختلفة. * نشر المنتجات الفنية وإتاحة الفرص أمام الجمهور لاقتنائها من خلال تنظيم المعارض الفنية بالداخل والخارج. وخلال السنوات الخمسة عشر الماضية حققت "أصالة" إنجازات فعلية منها إقامة ورش عمل دائمة ومتنقلة للحرف التقليدية للتدريب والإنتاج، وتأهيل أكثر من 250 حرفياً للعمل في مجال الفنون التراثية، وشنت حملة قومية للدعوة إلي إقامة مدينة للحرف التقليدية بأرض الفسطاط بحي مصر القديمة استكمالاً للمشروع الذي وضعت أساسه السيدة سوزان مبارك عام 2001، وأقامت سلسلة من المعارض التشكيلية والحرفية وورش العمل بالقاهرة وبعض المحافظات، والأهم من هذا كله أنها أعدت وأصدرت أول موسوعة للحرف التقليدية في مصر صدرت منها ثلاثة أجزاء. وبدلاً من تشجيع هذه الجمعية الأهلية المحترمة، تفنن البيروقراطيون في وزارة الثقافة في وضع العراقيل أمامها. وآخر المشاكل التي تواجهها هذه الجمعية وهي المشكلة التي توشك أن تشعل حريقاً يأتي علي الأخضر واليابس ويقضي علي هذا الجهد الأهلي الذي يستحق التشجيع والمساندة هي أن صغار كبار وكبار صغار المسئولين في الهيئة العامة للآثار يحاولون طرد جمعية "أصالة" من مقرها بوكالة الغوري، وإلقائها هي ومن فيها من فنانين وحرفيين إلي قارعة الطريق. بل وإحالة رئيس مجلس إدارتها، الفنان الكبير عزالدين نجيب، إلي النيابة!! لماذا؟! الإجابة التي يرددها هؤلاء البيروقراطيون هي أن مجرد تواجد الجمعية في وكالة الغوري يمثل تهديداً للثروة الأثرية. أي أن البيروقراطيين بهيئة الآثار يحاولون تغليف فعلتهم النكراء بغلالة براقة يظنون أن أحداً لن يعارضها وهي حماية الآثار. لكنهم ينسون أو يتناسون أن اليونسكو - التي يسعي رئيسهم وكبيرهم وزير الثقافة فاروق حسني كي يصبح مديراً عاماً لها تدعو إلي الحفاظ علي التراث ( وهذا هو الهدف الأول لجمعية "أصالة"، بل إن اليونسكو تدعو في الوقت نفسه إلي استغلال المباني الأثرية لتعميرها بالنشاط الثقافي. ومما يدل علي تهافت وكذب ادعاء البيروقراط في وزارة الثقافة بهذا الصدد أن مبني وكالة الغوري الذي يريدون طرد جمعية "أصالة" من جزء صغير منه، يوجد به نحو خمسين مرسما يشغلها الفنانون التشكيليون لممارسة إنتاجهم بموافقة وزارة الثقافة. فهل يتعين علي هؤلاء الفنانين أيضاً عدم وضع وسائل الإضاءة المناسبة لإنتاجهم وأن يمتنعوا عن تعليق لوحاتهم علي الجدران.. وهي نفس "الأفعال" التي يتم عقاب "أصالة" علي اقترافها! الحقيقة أن أحداً لم يتعرض لهم لمنعهم من أي شئ من ذلك علي مدي عشرات السنين تحت مسمع وبصر نفس الجهات الأثرية التي تكيل لجمعية "أصالة" بمكيال آخر، رغم أن "أصالة" هي التي تبث الحياة في هذا المكان بعد أن كان خرابة مليئة بالأتربة والثعابين والعقارب وجعلت منه قاعة للمعارض وقبلة للزائرين. وينسي نفس بيروقراط وزارة الثقافة أن وزارتهم ذاتها ظلت تتعاون مع الجمعية منذ 15 عاماً، وظل الوزير فاروق حسني يدعمها ماليا من حين لآخر لاصدار موسوعة الحرف التقليدية التي تؤسس ذاكرة قومية للتراث الحرفي. وهذا الموقف العدائي للجمعية من جانب المسئولين عن منطقة الأزهر بالمجلس الاعلي للآثار ليس جديداً، فقد سبق لهؤلاء المسئولين محاولة إبعاد الجمعية عن مقرها ذاته عام 2001 بغرض الترميم "الذي لم يتم أبداً" حتي عادت بعد خمس سنوات إلي مكانها بدون إجراء الترميم "وقصة أيمن عبدالمنعم معروفة". واستأنفت الجمعية نشاطها منذ عام 2006 وحققت كثيراً من الإنجازات التي افتتحها محافظ القاهرة الدكتور عبدالعظيم وزير والدكتور أسامة الباز ومن قبلهم فاروق حسني! والجمعية صاحبة أهداف ثقافية ولا شان لها بالتجارة والربح كما يزعم مسئولو الآثار، وإنما هي خدمة ومساعدة للحرفيين والجمهور لتحقيق التواصل المفقود، فضلاً عن أن الجمعية مراقبة مالياً وإدارياً من عدة جهات: وزارة التضامن الاجتماعي، ووزارة الثقافة، والجهاز المركزي للمحاسبات. كل هذا يبين تهافت ادعاءات موظفي الآثار الذين يريدون طرد جمعية "أصالة". لكن السؤال أكبر من هؤلاء الموظفين البيروقراطيين وهو بصراحة: هل تريد الدولة دعم النشاط الأهلي في الثقافة أم إعدامه؟ وهل تعني بحماية التراث أم إهداره؟ وهل تساند المخلصين للوطن علي مواصلة رسالتهم أم تدفع بهم إلي أروقة النيابة كمتهمين بالتخريب مثلما يحدث الآن بالفعل مع الفنان الكبير عزالدين نجيب، الأمر الذي يمثل فضيحة ثقافية كبري!! دبرنا يا وزير الثقافة، وقل لنا ماذا أنت فاعل إزاء هذه الفضيحة في وقت تتطلع فيه إلي قيادة "اليونسكو" التي تمثل ألاعيب بعض موظفيك انتهاكاً صريحاً لميثاقها وفلسفتها!!