اقتصادي وسياسي مصري في الصباح الباكر من أحد أيام شهر مارس في عام ،1999 اجتمع ممثلو ثلاثة وثلاثين دولة في قاعة فسيحة أعدت للاجتماع في مدينة بون الألمانية. ورغم جمال المكان المعد في أجواء قلعة قديمة مشيدة علي قمة تل اخضر سفحه ببوادر الربيع، إلا أن نفرا من المجتمعين شملتهم مظاهر القلق والتوتر، ونفرا آخر ظهرت عليهم علامات الترقب لما سيسفر عنه الاجتماع ونفرا ثالثا حلت عليهم أمارات أصحاب الحل والعقد وسمات الثقة الظاهرة. لقد كان هذا الاجتماع لمناقشة آثار الأزمة المالية للأسواق الناشئة فيما عرف بعد ذلك بالأزمة المالية الآسيوية والتي كان لها تداعيات سلبية اقتصادية عالمية. وكان الاجتماع تمهيدا لاجتماع آخر عقد بعد شهر واحد في واشنطن لاتخاذ إجراءات المساندة للأسواق الناشئة والدول النامية وأسوق ذكر هذا الاجتماع لإظهار ما سيبين للقارئ من أن ثمار الأزمات الحالية تحمل بذور لأزمات قادمة وأن هناك أمرين مشتركين في جميع الأزمات. أولهما أنه رغم كثرة الحديث عن دروس مستفادة من أزمات ماضية وضرورة الاتعاظ بأخطاء هنا وتدارك تجاوزات هناك، فإن الأزمات تتكرر بقدر من الابتكار المحدود في مسبباتها. وثاني الأمور المشتركة أن كل الأزمات مهما بلغت في حدتها وخطورتها وطول أمدها تنتهي، وأن هذه النهايات غير عادلة في نتائجها إذ يدفع الثمن الأكبر لهذه الأزمات غير المتسببين فيها. أعلم أنه مع كل أزمة مالية أو اقتصادية كبري يذهب البعض إلي التأكيد علي أنها عارض غير مسبوق، ويحاول اقتصاديون وضع مجموع من الافتراضات عن المسببات الفريدة للأزمة المعنية، ويجتهدون في البحث عن منابعها، ويسعي البعض لصياغة تدابير وإجراءات جديدة للخروج من الأزمة ومحاولة منع حدوثها مرة أخري. هكذا تنبئنا الأزمات المالية والاقتصادية السابقة علي مدار القرون الأربعة الماضية.. من أزمة زهرة التيوليب (الزنبق) الهولندية في القرن السابع عشر إلي فقاعة بحر الجنوب في القرن الثامن عشر، ثم تدهور سوق القطن الآجلة في القرن التاسع عشر. وإذا استعرضت عقود القرن العشرين فلا يكد يمر عقد أو عقدان منه إلا وشهد أزمة مالية أو مصرفية أو ائتمانية أو في أسواق النقد الأجنبي، ففي عام 1907 حدثت فوضي مالية كبري بعد انهيار الأسواق وتسابق المودعين علي البنوك لسحب ايداعتهم من البنوك الأمريكية. وقد جاء أحد المعلقين في كتاب نشر له عام 1908 بإيضاح لأسباب هذه الأزمة فتجد مشكلة التلاعب في سوق الأوراق المالية في المقدمة، وتدفق رؤوس الأموال دون ضوابط إلي القطاع العقاري، والانفلات في قواعد منح الائتمان، وشح السيولة وفقدان الثقة بين المؤسسات المالية. ثم تمر السنوات قصارا أو طوالا في تقدير من عاشها، لتأتي الأزمة المالية العالمية الكبري المعروفة بالكساد الكبير ليشرح الاقتصادي جون كينيث جالبريث أسبابها وآثارها في كتابه المهم، والمعنون "الانهيار الكبير 1929" 2 وهو دراسة كلاسيكية عن الخراب الاقتصادي الذي تسببت فيه هذه الأزمة المالية والذي امتد لعشر سنوات بعدها. ورغم تأكيد جالبريث علي أن علم الاقتصاد لا يكاد يعطي إجابات شافية علي مسببات الانهيار المالي في عام 1929 فإنه يظهر في تحليله مشكلة التلاعب في سوق الأوراق المالية، المدفوع والمتبوع بمقامرات مالية وليس مضاربات محسوبة، وتيسر ذلك بمنح سهل للائتمان دون ضوابط وافراط في الثقة من جانب المؤسسات المالية لحد الغرور في اتخاذ القرار الائتماني، وشعور بتدفق غير محدود للمدخرات وتدفق رؤوس الأموال دون حساب لتذهب إلي أوعية مالية غير مساندة لأنشطة إنتاجية، فمجالات الاستثمار محدودة وعوائدها متواضعة لا تتناسب وطموح المدخرين الطامعين في عائدات عالية. وقد جاءت هذه التطورات علي نحو مشابه لما حدث في أزمات سابقة، ومنها فقاعة "بحر الجنوب" في القرن الثامن عشر عندما كانت تنهمر المدخرات علي أنشطة ذات عائد مالي ظاهر دون عمل اقتصادي منتج يبرر هذا العائد.