التحدي الأكبر الذي يواجهه الرئيس المنتخب باراك أوباما في فترة تشكيل إدارته والطاقم المساعد تتركز في المرحلة الانتقالية علي احتواء عقدة نائبه جون بايدن. بايدن صاحب مشروع ويمتلك خبرة طويلة في التعامل مع الملفات الدولية وهو مصنف تقليدّيا من جناح "الصقور" في الحزب الديمقراطي والأقرب إلي مدرسة "تيار المحافظين الجدد"، وبايدن في هذا المعني يقارب عقدة ديك تشيني في عهد الرئيس الحالي جورج بوش. تشيني لعب دور المحرض السياسي في إدارة بوش وساهم في توريط الولاياتالمتحدة في مغامرات كان بالإمكان تجنب الوقوع فيها، واستمر مكتب نائب الرئيس يقوم بمهمات خاصة علي هامش الإدارة حتي حين بدأ تيار "المحافظين الجدد" ينهار تدريجيا وتتساقط رموزه واحدا بعد الآخر. بايدن ليس بعيدا عن لعبة تشيني التقويضية حتي لو استخدم مفردات تختلف في منطقها الشكلي عن مصطلحات "المحافظين الجدد"، فالمنطق مختلف ظاهريا لكنه متجانس جوهريا في تعبيراته وآلياته وأهدافه السياسية، بايدن مثلا صاحب مشروع تقسيم العراق إلي ثلاث دويلات وقد قاد في الكونجرس الأمريكي صولات وجولات لإقراره رسميا. مشروع تقسيم العراق الذي أقره الكونجرس رسميا في العام 2007 رفض بوش توقيعه لأسباب "نفسية" تحسب ضده دوليا علي اعتبار أنه الرئيس الذي اتخذ قرار الحرب بذريعة إنقاذ المنطقة من الإرهاب والسلاح الكيماوي، ولهذه الاعتبارات "الشخصية" قرر بوش تأجيل التوقيع ورفع ملف التقسيم إلي الرئيس المقبل حتي لا يتحمل "معنويا" مسئولية فشل خطة الإحتلال. الرئيس المقبل للولايات المتحدة انتخب وأصبح يتحمل مسئولية القرارات التي ستتخذ بشأن العراق وأفغانستان وفلسطين ودول "الشرق الأوسط الكبير" حين يتسلم مقاليد السلطة في 20 يناير ،2009 ومشكلة الرئيس المقبل تتركز الآن في نائبه بايدن وهي تشبه في عناصرها الإيديولوجية تلك المشكلة التي واجهها بوش في تعامله اليومي مع نائبه تشيني. كيف سيتعامل أوباما مع مشروع بايدن التقويضي؟ وهل سيوافق علي خطة تقسيم العراق ويوقع قرار الكونجرس رسميا ليصبح مشروع الدولة الأمريكية في المرحلة المقبلة أم أنه سيجمد القرار ويؤجل التوقيع ويتجاهل خطة التقسيم حتي تتضح معالم الصورة الدولية في ضوء الأزمة المالية التي تعصف بأسواق العالم. هناك تحديات كثيرة يواجهها أوباما ولكن أسلوبه في التعامل مع نائبه بايدن يعطي الكثير من المؤشرات للتعرف علي شخصيته ومدي قدرته علي تحمل مسئوليات ترتقي إلي تلك التوقعات التي راهنت علي فوزه. أوباما يختلف عن بايدن ليس في المذهب واللون فقط وإنما في تكوينه الاجتماعي وسيرته الشخصية وتجربته السياسية، وبايدن يختلف كثيرا عن أوباما بوصفه صاحب تجربة عريقة في الكونجرس وابن المؤسسة الرسمية وأحد رموزها في العقود الثلاثة الأخيرة، والاختلاف بين السيرتين يرسم خطوط تماس بين الشخصيتين وأساليب تعاملهما مع ملفات ساخنة تركها لهما بوش قبل أن يغادر البيت الأبيض. لا شك في أن أولويات أوباما الآن أمريكية داخلية وهي تتركز علي الاقتصاد ومنع الأزمة المالية من مواصلة اجتياحها لمؤسسات الإنتاج المدنية، ويحتمل أن تشكل هذه الأولوية الداخلية فرصة للرئيس المنتخب تعطيه فترة زمنية لإعادة صوغ الاستراتيجية الدولية بناء علي المستجدات وحاجة الخزانة للمال قبل الأمن، إلا أن هذا الاحتمال يواجه تحديات داخلية تتمثل اقتصاديا في احتواء ضغوط لوبي شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال، كذلك تواجه هذا الاحتمال تحديات إدارية تتمثل رسميا في احتواء ضغوط جناح بايدن ورؤيته الخاصة والمتشددة في ملفات السياسة الخارجية. وبايدن يشكل عقدة أوباما في السنوات المقبلة. فهذا الديمقراطي أقرب إلي أيديولوجية الحزب الجمهوري وخصوصا في مسألة قراءة نشوء الدول العربية والمسلمة المعاصرة وضرورة إعادة النظر في الخريطة الجغرافية السياسية التي تشكلت تاريخيا في مرحلة الاستعمار الأوروبي والثنائية الفرنسية البريطانية. هذه الرؤية التي يعتمدها بايدن أسست لديه منهجية تقارب استراتيجية "تيار المحافظين الجدد" ومشروع تقويض دول المنطقة وإعادة تأسيسها من جديد علي قاعدة تقسيمات قبائلية وأقوامية وطائفية ومذهبية. لذلك ولكل هذه الاعتبارات النظرية "الرؤيوية" قاد بايدن في الكونجرس منذ عام 2005 حملة تشريعية للموافقة علي خطة تقسيم العراق وانتهت محاولته الأولي بالفشل.. وجدد الحملة بعد الانتخابات التشريعية النصفية التي جرت في خريف 2006 وانتهت بفوز الحزب الديمقراطي بغالبية المقاعد. وبسبب تغير موازين القوي الحزبية في الكونجرس استفاد بايدن من التحولات فجدد حملته ونجح في عام 2007 في تمرير مشروع خطة تقسيم العراق إلي ثلاث دويلات. ومشروع تقسيم العراق رسميا يشكل في كل الحالات ورقة ضغط علي أوباما يمكن تحريكها في المناسبات لاختبار مدي فعالية إرادته واستعداده للتحدي وحرصه علي الاستقلال عن نائبه بايدن. هناك مطبات كثيرة يواجهها أوباما وهي في مجموعها موروثة عن عهد سلفه بوش. فالرئيس المنتخب أمامه ملفات ساخنة لا يستطيع تجاهلها أو تأخيرها أو التهرب من استحقاقاتها وأيضا لا يستطيع التسرع واتخاذ قرارات ناقصة تورطه في مشروع تقويضي كبير في وقت تضغط عليه أزمة أسواق المال لاتخاذ خطوات تنقذ الاقتصاد الأمريكي من كارثة كبري. عقدة بايدن تمثل إشارة إلي التعرف علي شخصية الرئيس المنتخب ومدي استعداده لتقبل التحدي ورسم صورة مغايرة عن سلفه الذي خضع لسياسة نائبه تشيني. التشابه بين العقدتين موجود ويبقي أن ننتظر لنتعرف علي سياسة الرئيس بعد تسلمه مقاليد السلطة رسميا.