بين التمرد والطاعة خيط رفيع، ولا يفصل بين الاثنين هوة شاسعة كما نتوهم، هذا ما كنت اشعر به حين اقابل يوسف شاهين أو اشاهد واحدا من افلامه. فيوسف هذا المتمرد العظيم كان وسيظل علامة مبهرة لفن الاستماع برضوخ شديد لحدسه الشخصي، وهو حدس لا يغيب ابدا عن حقائق المستقبل. واذا كان تاريخ يوسف شاهين قد بدأ من الاسكندرية، فهذه المدينة لها تأثير غير مسبوق علي كل من عاش فيها، ولعلها المدينة المصرية الوحيدة التي تطل علي المتوسط وينفذ اليود من هوائها، وكأنه عطرها الشخصي، ولا اعرف انسانا ولد في هذه المدينة وعاش فيها سنين حياته الاولي، إلا وهو يملك شجن شوق غريب الي التاريخ والمستقبل في آن واحد، ويمزجهما معا في قلبه كي يستخرج منهما اسلوبا للتعامل مع الواقع. لقد رأيت يوسف شاهين لاول مرة اثناء اعداد فيلم الارض، وهو الفيلم الذي اودعه الفنان حسن فؤاد طاقة هائلة متفردة في فنون كتابة السيناريو بما يضمن ارقي فصاحة ممكنة وغير مغرقة في الابتعاد عن فهم البسطاء، واستطاع يوسف شاهين بقدراته الفذة في تأليف الصورة السينمائية ان يجعل من هذا السيناريو فيلما اقل ما يوصف به انه واحد من اندر الافلام التي اجتمعت لها ثلاث قامات شامخة، قصة نادرة لمؤلف عبقري هو عبدالرحمن الشرقاوي، وكاتب سيناريو يعي جيدا ان الابداع الفني يجب ألا يغرق في الغرابة بل يمكن توظيفه في نطاق القبول من المشاهد العادي، وكان هناك يوسف شاهين الذي يرفض من اساس النشأة أي استغلال من البشر للبشر، وهكذا جاء الفيلم الخلاب. ورأيت يوسف شاهين مرة ثانية اثناء فيلم العصفور، وعلي الرغم من ان الناس كانت تبحث عن مخرج لهزيمة يونية 1967، وهل هناك امل في تغيير الواقع الخشن الذي يجثم علي صدور المصريين، وجاء فيلم يوسف شاهين ليعطينا الثقة في أنفسنا، ويبعد عن المواطن العادي إحساسه بأن الهزيمة من صناعته، بل هي من صناعة تجار السياسة، وهواة الضحك علي البشر. ولم يكن يوسف شاهين سوي قارئ لأعماق البشر العاديين يستخلص من حياتهم وواقعهم بالفن السينمائي طاقات هائلة للسير إلي المستقبل، وإن كانت اللغة السينمائية قد غلبت يوسف شاهين، وافتقد كاتبا للسيناريو في قامة حسن فؤاد إلا أن الفيلم نجح جماهيريا وفنيا، وإن بدا في نظر البعض خطوة في التغريب، ولكن تغريد الصورة وتتابعها وإحساس الناس بمدي إخلاص يوسف شاهين لها، كل ذلك كان من عوامل نجاح الفيلم. وتوالت الرؤية المستكشفة للمستقبل في أفلام يوسف شاهين حتي وهو يقرأ تاريخ الإسكندرية في اعماقه، ولكنه لم يستطع في أغلب الأفلام أن يصل بعمق فلسفته الإخراجية إلي القبول الجماهيري الكبير، والذي سبق أن حققه في فيلم الأرض وفيلم العصفور، إلي أن جاء "هي فوضي" ليكون واضحا وصريحا إلي حد المباشرة في وقوفه ضد الجبروت والتسلط. وإذا كان يوسف شاهين قد رحل، فكل فيلم من أفلامه هو علامة تستحق الدراسة، لأنه لم يخرج أفلاما من أجل العمل لمجرد العمل، بل كان العمل عنده خطوة في الإبداع. وكل كلمات الوداع لا تكفي رجلا أحبنا بعمق محبة يوسف شاهين لكل ما هو مصري وإنساني. رحم الله الرجل العبقري.