مرة أخري تواجه إسرائيل معضلتين: أن تجري أو لا تجري تفاوضا في محاولة حقيقية للتوصل إلي اتفاق سياسي وإذا كان الأمر كذلك فمع من؟ مع السلطة الفلسطينية أم مع دمشق؟ بالنسبة للطرف الأول وهو التفاوض مع السلطة فالمعضلة بالنسبة لإسرائيل ليست قائمة إذ ان اسرائيل تتظاهر بأنها شريكة حقيقية في السلام مع الفلسطينيين وانها تجري تفاوضا نشطا معهم في الوقت الذي يجافي سلوك حكومتها الحقيقية ويثبت عدم وجود أي نية للتقدم في المسار الفلسطيني وان كل ما تفعله اسرائيل من أجل الاستجابة للطلبات الأمريكية وتهدئة الرأي العام فيها. وفي المقابل فإن الجانبين الفلسطيني والسوري يريدان السلام ولكن الفارق انه من موقع ضعف وضائقة داخلية وخارجية شديدة وإسرائيل في ضوء هذه المعطيات تستطيع ان تلعب بالأوراق السياسية كيفما تشاء ومن هنا بدأ الإعلام الإسرائيلي وتصريحات القادة السياسيين يلوحون من حين لآخر لامكانية التوصل إلي سلام مع سوريا تحت ذريعة تجربة خمسة وثلاثين عاما من الاحتلال لهضبة الجولان بما يحمله من اتفاق ضمني لنظام حكم مستقر وقوي وقادر علي الوفاء بالتزاماته. ومن حيث التوقيت فمن وجهة نظر إسرائيل فإن سوريا ضعفت مع قتل رفيق الحريري بما يحمله ذلك من خوف من إدانة بشار الأسد كمذنب في المحكمة الدولية في لاهاي وفي ظل العزلة التي تمر بها سوريا والمقاطعة الأمريكية المفروضة عليها تبدو الخطة مواتية لإسرائيل حتي تدعو سوريا للانضمام إلي معسكر الاعتدال والسعي لدي الإدارة الأمريكية أو الإدارة التالية حتي تؤيد مبادرة التفاوض بين الدولتين. وعلي الرغم من ذلك فإن القيادة السياسية في إسرائيل منقسمة في هذا الشأن فهناك فريق يري ان سوريا متحالفة مع محور الشر ايران وحزب الله وكل الدول والجهات المحسوبة علي الأصولية الإسلامية المنفلتة بما يهدد الأمن القومي الإسرائيلي وإذا ما تم التخلي عن هضبة الجولان في ضوء اتفاق سلام فإن ذلك يعني أن تضع ايران اقدامها علي الحدود مع إسرائيل أما الفريق المؤيد للتفاوض فهو يري ان من الضروري عزل سوريا عن ايران وحزب الله والتنظيمات الإرهابية التي تحصل علي رعايتها وذلك باتفاق سلام شامل مع سوريا يكون ملزما لجميع الأطراف أمام المجتمع الدولي تماما مثلما حدث في كامب ديفيد والخطوة التاريخية التي قام بها مناحيم بيجن عندما ركز علي التسوية مع مصر الدولة الأقوي والعدو الأشد لإسرائيل منذ إقامتها كذلك ما فعله رابين من خلال اتفاق السلام مع الأردن وهذا السلام حتي الآن معترف به ومدعوم من قبل الولاياتالمتحدة وأوروبا وقد تمخض عن منطقة مستقرة وعقلانية إلي حد كبير. وفي ضوء هذه المعطيات فإن حراكا سياسيا ملحوظا يدور في العلن والسر ومن مؤشرات هذا الحراك الوساطة التركية الأخيرة التي بادرت بها تركيا للوساطة بين سوريا وإسرائيل إذ أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوجان فور عودته من دمشق قبل أيام ولقائه مع الرئيس السوري بشار الأسد أن الطرفين الإسرائيلي والسوري طلبا بدء المفاوضات علي مستوي الموظفين علي أن يتم رفع سقف المفاوضات علي المستوي القيادي في حال أثمرت المرحلة الأولي. وهذه هي المرة الأولي التي تعلن فيها تركيا وساطتها في الملف السوري الإسرائيلي رسميا والأكيد ان تركيا دخلت بثقلها السياسي كله وثقة الطرفين بها للوساطة في المفاوضات بينهما الأمر الذي أكده تعاطي الرئيس بشار الأسد بايجابية مع نية رئيس الوزراء التركي في جهوده لتوفير أرضية مشتركة لانطلاق مفاوضات علنية بين سوريا وإسرائيل لاستعادة الجولان السورية في مقابل تحقيق السلام كما تحظي الوساطة التركية بنفس القدر من المباركة الإسرائيلية إذ تري إسرائيل ان النشاط التركي يعتبر عاملا ايجابيا وقد يفضي لنتائج ملموسة علي الصعيد الإقليمي والميداني رغم تشكيك اليمين الإسرائيلي بنية الجهود التركية واتهامها بعدم الموضوعية وان لتركيا مصالح ذاتية واقليمية في المنطقة حيث يري اليمين ان أي انسحاب من الجولان سيحولها إلي قاعدة ايرانية. غير ان شعبة الاستخبارات في الجيش الاسرائيلي كانت قد قدرت في جلسة خاصة قبل اسبوعين بأن عزل سوريا عن "محور الشر" مسألة قابلة للتحقق خصوصا ان ترافقت مع الدعم الأمريكي فسوريا ليست في مكانها الطبيعي في التحالف مع ايران التي ترغب منذ عودة الخميني باسقاط الانظمة التقليدية في المنطقة والتي تعتبر سوريا واحدة منها واخضاعها لحكم رجال الدين وفي هذا الإطار فان التسوية مع سوريا ستغير الوضع في المنطقة من الناحية الاستراتيجية وتعزل ايران وتشل قدرة القيادات المناهضة لاسرائيل وتعزز الانظمة الإسلامية المعتدلة.