نحن شعب عاطفي جدا.. لطالما استوقفني ما اعتربته "نزيف المشاعر" لدي المصريين، فالعواطف الجياشة التي سرعان ما تنهال إزاء حدث أو موقف، أو شخص، يتم توظيفها في اتجاهات غير مجدية وكثير ما تكون بغير وجه حق، حيث تعمي العواطف البصيرة، فتنصف الظالم وتنحاز له، وتمشي علي جثة المظلوم. صديقي باحث في علم النفس.. علي عكسي تماما يستحسن تلك النزعة العاطفية في الشعب المصري، ويراها ميزة ثقافية في العرب كلهم، وأوضح لي عندما سألته مرة أطلب تفسيرا لهذه الظاهرة قائلا إن الجوانب المضيئة في هذا السلوك العاطفي حتي لو كان زائدا دليل حياة، وقلب نابض مازال قادرا علي الخفقان، وعلي الإحساس المرهف.. وإن العاطفة تمنع "التعليب" و"التنميط" وتحصن الإنسان ضد الأمراض، وضد اللا مبالاة التي أكلت خلايا عقول شعوب أخري، فقدت في المقابل التعاطف والتآزر وأصبح الإنسان فيها مجرد "ترس" داخل النظام أو "السيستم" كما يقال. وصديقي يدافع بقوة عن التعزيز والتحصين النفسي الذي تلعبه العاطفة لأنها تحمي إنسانية الإنسان في ظل هجمة الماديات الشرسة، وأخلاق الغاب التي أصبحت تسيطر علي الثقافة العالمية المتجهة أكثر فأكثر إلي التشابه وليس إلي الحفاظ علي التمايز. وهذا تحليل جميل يعلي من رصيدنا الثقافي ولكنه ينظر إلي نصف الكوب المليء فقط، فالنزعة العاطفية هي التي جعلت المواطن العربي يعبد حكامه، ويهتف بالروح والدم لهم، ويرفع شعار "اللي نعرفو أحسن من اللي منعرفوش" وهذه قضية أخري. ولكن دعني أعود إلي مستوي آخر من الحوار "ألطف"، والمقصود مسلسل "يتربي في عزو" وبالتحديد دور الأم أو "ماما نونة" في هذا المسلسل الرمضاني الذي حظي بمشاهدة واسعة، وبتعاطف منقطع النظير استهواني للتعليق عليه. لقد انحاز المشاهد المصري، بل والعربي لشخصية ماما نونة، وحمادة عزو وتغلبت براعة الممثل علي رسالة الدراما، فالشخصية الفوضوية الفاشلة "علي الورق" أصبحت محل إعجاب وزغزغة مشاعر المتفرجين بفضل الكوميديا العالية واتقان رائع للفنانين يحيي الفخراني وكريمة مختار، ولا يمكن أن نلوم الفخراني علي ذلك الإبداع فقد عودنا دائما بالتفوق علي نفسه ونتوقعه منه في كل عمل جديد. كما لا يمكن أن نلوم كريمة مختار علي أدائها المتفوق لدور الأم والذي فاق نجاحها في كل أدوارها السابقة لكن المشكلة في لعبة الدراما عندما تنقلب علي كتابها، وفي العاطفة الجياشة للمتفرجين عندما تقع في شرك الشخصية فتنسي أو تغفل عن القيمة الرئيسية للدراما. فالأم هي المتسبب الأول في فساد تربية ابنها، وماما نونة بتدليلها الزائد لحمادة جعلته شخصا غير مسئول يتزوج ثلاث مرات، زيجات فاشلة، وينجب أولادا لم يستطع أن يكون لهم الأب كما يفترض منه.. وظل تابعا لأمه ترعاه كأنه رضيع، ولم يفطم من هذه العلاقة إلا عندما توفيت، فبدأت تظهر حينئذ ملامح الاستقلالية والنضج المتأخر الذي لم يدرك المتفرج معانيه نظرا لانتهاء المسلسل. لقد احتفي الناس بهذا المسلسل، أيما احتفاء واستملح حتي بعض كتابنا الكبار في مقالاتهم هذا العمل لكن الوقفة المفترضة التي لابد أن نقوم بها مع أنفسنا تستدعي مراجعة طرق التربية القائمة علي التدليل المفسد والتي لم تبدو واضحة، ولم تترسخ في أذهان غالبية المتفرجين بعد مشاهدة المسلسل، وبدلا من مناقشة كيف ماتت ماما نونة بأزمة صحية المتسبب فيها ابنها حمادة، يعني أنه قتلها، حزن الشعب المصري والعربي وتهاطلت دموعهم أنهارا علي وفاة ماما نونة، وجنت شركات المحمول نصيبها من هذا التعاطف حيث سرعان ما تبادل المصريون برقيات التعازي برسائل الموبايل. وأتذكر في هذا المقام الشاعر الكبير حافظ إبراهيم عندما قال: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق أين لي بتربية البنات فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق إن "ماما نونة" الموجودة في كل أسرة مصرية أو عربية هي التي أفسدتنا فهي مصرة علي أن تعامل ابنها دون النظر لعدد سنوات عمره.. ولأن الأم في مجتمعاتنا مازالت المسئولة الأولي عن عملية التربية، حتي في ظل وجود الأب، ولأن صناعة "الرجال" أيضا تبدأ من الطفولة، فإن استمرار هذا النموذج المفسد للأبناء هو إنتقاص لفرص نهوض الأجيال المستقبلية بدورها في التغيير والإصلاح والقدرة علي اتخاذ القرار وتحمل مسئولية الوطن. فكيفما تزرعن أيها الأمهات.. سوف تحصدن.. وماما نونة أفسدت حمادة، فحصدت الطفل المدلل العجوز حمادة عزو الذي قضي عليها.