تحمل صفحات التاريخ العربي من القيم الروحية والنتاج الثقافي والأدبي ما لا يعلمه الغرب عنا، بل وما لا نعلمه نحن عن أنفسنا، لذلك فإن كان لزاما علي البشرية أن تتواصل وتتبادل معارفها المكتسبة بغية تحقيق الرخاء والوئام وتعظيم المصلحة المشتركة، فلابد علينا أن نتجاوز حدود الاختلافات اللغوية وخيوط الفوارق الثقافية نحو تجسيد ثقافة عالمية إنسانية مشتركة تكون متاحة للجميع، بحيث يتعرف كل منا فيها عن ماضي الآخر بقدر ما يعرف عن حاضره الراهن، وتطلعاته في المستقبل. إن بناء جسور فاعلة لحوار الحضارات، وتجسيد ثقافتنا وتراثنا العربي باللغة التي يدركها الآخرون، لا يتم ببساطة الكلمات التي تعبر عنه. ففي عصر الثورة الرقمية، والتطورات الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تتزايد القيود وتتصاعد التحديات لتنفيذ ما نطمح إليه. فاستحداث المزيد من طرق التواصل بين الأمم والشعوب، لا ينفي تحديات الفجوة اللغوية بين العرب وغيرهم. وإن كانت اللغة هي وتد الثقافة، فتضييق هذه الفجوة يتطلب منا مواكبة لغة العصر، والنهوض بقدراتنا الفردية والجماعية لمضاهاة المنظومة الثقافية العالمية. وانطلاقا من هذه الرؤية، تسخر مكتبة الإسكندرية طاقاتها وقدراتها البشرية والمعرفية والتكنولوجية لتحقيق الريادة العالمية في المجال الرقمي من خلال عدد من المشروعات الرقمية والتكنولوجية، وتسعي في هذا الصدد إلي إقامة العديد من الشراكات مع المؤسسات الثقافية، ونظرائها من المكتبات الكبري علي مستوي العالم، حيث تطمح من خلال ذلك إلي توثيق والحفاظ علي التراث المصري والعربي من ناحية، والتواصل مع ثقافات العالم من ناحية أخري، بالإضافة إلي العمل علي إتاحة أنواع ومجالات مختلفة من المعرفة الإنسانية للجميع. وتتكامل أدوار عدد من المراكز المتخصصة بمكتبة الإسكندرية تتولي عدة مشروعات لرقمنة وحفظ التراث، ونشر وإتاحة المعرفة، ويلعب المعهد الدولي للدراسات المعلوماتية ISIS دورا محوريا في التنفيذ والقيام علي تطوير هذه المشروعات. ويأتي التراث علي قمة أولويات مكتبة الإسكندرية التي تضرب جذورها في حضارة عريقة وتتمتع ببنية تحتية متطورة لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات هي الأفضل في المنطقة، ويتخذ هذا الاهتمام شكل إدارة التراث بشكل عام وحفظه بشكل خاص. ويتم حفظ التراث إما عن طريق غرسه في عقول الأجيال الجديدة من خلال مختلف وسائل التثقيف أو من خلال حفظه ماديا باستخدام تقنيات الترميم والتخزين والصيانة. وبصفتها مكتبة العصر الرقمي والألفية الجديدة تهتم مكتبة الإسكندرية أساسا بالرقمنة كوسيلة لحفظ وإدارة التراث. وسأعرض فيما يلي مقتطفات من مسيرة مكتبة الإسكندرية الرقمية نحو العالمية. أقامت مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع الأممالمتحدة من خلال مؤسسة لغة الشبكة الرقمية العلمية "UNDL"، مشروع "لغات الشبكات العلمية"، وهي لغة صناعية تهدف إلي الحلول محل وظائف اللغات المحلية في الاتصال الإنساني، ويرتكز المشروع علي ترجمة مصادر عديدة ومتنوعة من المعلومات للغات مختلفة عبر استخدام لغة عالمية وسيطة. وتلعب المكتبة دورا رئيسيا في تصميم وتنفيذ الجزء الخاص باللغة العربية في هذا البرنامج، كماانها تعتبر مركزا نشطا وفعالا مسئولا عن تراجم اللغة العربية، ويهدف المشروع إلي اتاحة استخدام وتشغيل مصادر المعرفة، وتمكين جميع الأشخاص من استخدام هذه المصادر بلغاتهم وثقافاتهم، وحتي الآن تم إدراج 15 لغة في هذا المشروع وبدأت عدة مؤسسات بالفعل، من بينها مكتبة الإسكندرية، في معالجة لغاتها الأم. كما قامت مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع المجلس الأعلي للآثار، وشركة IBM العالمية، بتصميم موقع الكتروني فريد هو مصر الخالدة أو WWW.eternalegypt.orf، والذي يعرض مجموعة من الوسائط المتعددة الحديثة لتساعد الناس في مختلف أنحاء العالم علي التعرف علي مصر في مراحلها التاريخية المختلفة. فيضم الموقع جولات تخيلية عبر التاريخ الفرعوني واليوناني الروماني والقبطي والإسلامي لمصر. وقد تم تصنيف هذا الموقع كأفضل التجارب التطبيقية المبتكرة في المؤتمر الدولي التاسع للثقافة وشبكة المعلومات الدولية والمتاحف عام 2005. ولا تنفصل مكتبة الإسكندرية عن محيطها السكندري، بل وتجسد المكتبة ما تعبر عنه صفحات التاريخ والحاضر السكندري المليء بالتنوع الثقافي والتداخل بين أطياف المجتمع. فتعد مكتبة الإسكندرية أحدث الأعضاء بين الهيئات الأوروبية والمتوسطية المشاركة في برنامج سترابو strabo program، ويهدف البرنامج لإنشاء موقع علي شبكة المعلومات الدولية بغرض التوعية والتعريف بالتراث الثقافي لدول حوض البحر الأبيض المتوسط. ويتمثل إسهام مكتبة الإسكندرية في حفظ تراث الإسكندرية علي موقع سترابو في مشروعات إعادة بناء فنار فاروس القديم بشكل رقمي، وإعادة البناء الرقمي للمساجد العثمانية بالإسكندرية، ونموذج ثلاثي الأبعاد لقلعة قايتباي. ويستخدم المشروع أحدث الأساليب التكنولوجية في تسجيل التراث باستخدام تقنيات المسح ثلاثية الأبعاد والتصوير المساحي الضوئي. وبالإضافة إلي ذلك، فقد أطلقت مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع مؤسسة بوابة التنمية في العاصمة الأمريكيةواشنطن، في الأسبوع الأول من مارس الماضي، النسخة الرقمية العربية من بوابة التنمية، وهي بوابة الكترونية معنية بالتنمية الشاملة والمستدامة. ولقد أعلنت مكتبة الإسكندرية ومؤسسة بوابة التنمية عن هذا المشروع المشترك لأول مرة في القمة العالمية لمجتمع المعلومات والتي عقدت في تونس عام ،2005 حيث تم التأكيد علي تفاقم سلبيات النقص الكبير في معلومات التنمية في المنطقة العربية علي مسيرة التنمية وإمكانية نجاحها. وفي هذا الإطار تقدم النسخة العربية لبوابة التنمية علي شبكة الانترنت معلومات وآليات محددة، وأطراً معرفية مبتكرة تهدف من خلالها إلي زيادة فعالية الجهود الوطنية الرامية إلي التنمية الشاملة والمستدامة، كما تطرح أفكارا حول الأسس العلمية والفعالة لبناء القدرات المحلية، وتسهل الجمع بين الشركاء الوطنيين تحقيقا لمزيد من التغيير الإيجابي في مجالاتهم المشتركة. استطراد أخير: تحتاج مصر والعالم العربي لحشد جهود وطاقات جماعية في سبيل بناء مثل تلك الشراكات الدولية التي تعبر بالمنظومة الثقافية والعلمية العربية إلي مصاف مثيلاتها الغربية، ومن جانبها مازالت مسيرة مكتبة الإسكندرية مستمرة كمنارة للمعرفة، وجسر للتواصل بين الشرق والغرب. مكتبة الإسكندرية المستشار الإعلامي