لشاعرنا المبدع عبدالمعطي حجازي بيت من الشعر يقول فيه "زحام ولا تبصر أحدا" أي أنه رغم الزحام ووجود الناس بكثافة فانك لا تستطيع ان تميز منهم نفرا واحدا.. ربما في الزحام تضيع الملامح وربما في الزحام ايضا تختفي او تضعف الرؤية. وبعض المفكرين يطلقون علي نوع من الفكر مصطلح "فكر الزحام" ويرونه فكرا لم ينضج بعد "بفتح الباء" بالقدر الكافي.. هو فكر يبدو انه يحمل وجهة نظر ويحمل قدرا من البصر والبصيرة ولكن تلك الصورة عندما نقترب منها نجدها علي خلاف ذلك فهي مثل السراب يحسبه الظمآن ماء حتي اذا جاءه لم يجده شيئا.. نعم فكر الزحام كالسراب لا يحمل ماء ولا يحدث ريا، فقط شكل خادع بلا مضمون. واذا اضفت الي هذا الزحام صورة تجد الجميع فيها يتكلم ولا احد يسمع الاخر او حتي يتسمع عليه فانك سوف تندهش.. اذا كان الجميع يتكلم فمن الذي يستمع؟ إن اي حوار - مهما كان مستواه - لابد ان يكون فيه من يتكلم ومن يستمع.. ويتبادل الطرفان المواقع.. علي المتكلم ان يستمع وعلي المستمع ان يتكلم وهكذا يجري الحوار. ومن يشاهد حالنا هذه الايام يشعر اننا نتكلم جميعا ولا احد يسمع الاخر.. الكل منهمك في الكلام ولا فرصة للسمع او الاستماع.. مع ان السمع مسئولية كبري وضرورة عظمي. والاعلام هو الاخر انفجر في الكلام سواء كان اعلاما فضائيا أو أرضيا او حتي صحفيا، الكل يتكلم بمنتهي الهمة والسرعة والحماس الذي يصل احيانا الي درجة الصراخ.. والصوت العالي قد لا يكون دوما هو النغمة الصحيحة.. ولو طالعنا مجرد عناوين لاحاديث ولكلمات لوضعنا ايدينا علي نوعية الكلام والحديث الذي يدور هذه الايام.. خذ عندك مثلا: * الحديث عن التعديلات الدستورية وعلي الاخص مادتان من بين اربع وثلاثين مادة طرحت للتعديل ومادة لم تطرح للتعديل وهي المواد 88، 179 والمادة 77 المتعلقة بمدة الرئاسة التي لم تطرح للتعديل. * مشروع كادر المعلمين ومشروع كادر الاطباء. * وقف تعيين المعيدين بالجامعات علي نحو ما نشرت بعض الصحف ولم يحدد احد عليها. * شركة إعمار مصر وما نشر عما يقال انه حدث فيها. * الاتجاه الي تحويل الاذاعة والتليفزيون الي شركات عامة مساهمة والسماح للقطاع الخاص بامتلاك قنوات ارضية. تلك عينة من مجالات الاحاديث والكلام وهي موضوعات بلا شك مهمة ويجب ان يقول الجميع رأيهم بشأنها ولكن لا يمكن ان يتكلم الجميع ولا احد يسمع للاخر او يحاول ذلك.. فهذا يجعل الامر وكأنه "احاديث الطرشان" فلا احد فيهم قادر علي سماع الاخر. وقد تقول الاغلبية - في أي مجتمع - لماذا الاستماع الي الطرف الاخر مادام لا يري في أي أمر إلا ما هو غير مقبول وغير جيد وغير مفيد؟ لماذا اذن نتوقف لنستمع اليه؟ وهو لا يردد ولا يقول ولا يري إلا ما يريد أن يراه هنا.. وأجدني - وغيري بالطبع - اتوقف هنا لأقول ان من حق الطرف - أو الاطراف - الاخر ان نستمع اليه حتي لو كان يهذي.. هذا حقه اولا ثم هذا احد ضرورات الحوار - والحوار دائما مطلوب - ثانيا: ولايوجد اخطر علي اي مجتمع من ان ينظر احد الاطراف او احدي القوي في ذاك المجتمع علي انه يحتكر الحقيقة والصواب دوما وابدا هذا ايها السادة ما لا يمكن ان تصح به الاوطان فمن تمام الحق ان تراه حقا حتي ولو قال به غيره كما ان مصلحة الوطن والمواطن لا يمكن ان تدعي قوة من القوي او طرف من الاطراف انه هو وهو فقط الذي يمكن ان يحددها وانه هو فقط الحريص عليها.. ان نتفق علي ان هناك مصالح عليا للوطن يجب الحفاظ عليها فهذا مفهوم وهذا ضروري ولكن قد نختلف في الوسائل والآليات المطلوبة لتحقيق تلك الغاية.. ولا يمكن ان يجري النقاش ويدور الحوار علي اساس ان رأينا دوما صواب فاتبعوه وما عداه خطأ فاجتنبوه.. لقد كان فقهاء وفلاسفة العرب يقولون ان رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.. تلك هي نقطة البداية في أي حوار ان نبدأ من نقطة نراها صوابا ولكنك لا تستبعد احتمال ان تنطوي علي خطأ.. وان تنظر الي الرأي الآخر علي انه إذا كان من رأيك انه خطأ فهو دوما يحتمل الصواب. تلك أبجديات أو بديهيات ولكننا بالممارسة نتصادم معها كثيرا دون مبررات مفهومة او ضرورات معلومة. أيها السادة ان جر النقاش الي طريق وحيد وحتي زقاق محدد والدنيا رحبة وواسعة وفسيحة امر لا يمكن فهمه.. خذ مثلا استجابة شيخ الازهر لدعوة بابا الفاتيكان لزيارته.. البعض ناقشها علي انها غير جائزة بالمرة لان الرجل قد قال عن الاسلام ما لا يجوز ولم يعتذر عما قال بشكل واضح وصريح.. والبعض الاخر يري عكس ذلك لاسباب يراها أبعد.. ولا بأس باختلاف الآراء بشرط اساسي هو انه كما اقول رأيي فلابد ان يقول الاخر رأيه علي نفس المساحة وعلي نفس الوتيرة وبنفس الاهتمام ومن تفاعل الاراء يمكن ان نصل الي كلمة سواء. وخذ ايضا موضوع التصريح الذي يقول به احد المسئولين في الاتصالات من ان هناك عقوبات جنائية تنتظر المواطنين الذين يمنعون تركيب محطات تقوية التليفون المحمول هكذا يبدو غير ملائم لانه ينبغي ان نشرح للناس ومن خلال جهات مختصة ولديها مصداقية. هل اقامة هذه المحطات للتقوية فيها اضرار بهم وبأبنائهم - كما يسمعون ويشاهدون في بعض اجهزة الاعلام؟ أم انه لا خوف ولا ضرر من تلك المحطات لانها تقام وفق اشتراطات وعلي مسافات لا يتحقق معها الضرر؟ لابد ان يكون هذا واضحا للناس قبل ان نقول لهم انكم معرضون لعقوبات جنائية او غير جنائية. وقانون الوظيفة العامة يعتبر مثلا طيبا في هذا الصدد حيث انه خضع للنقاش واستمع الوزير احمد درويش للاطراف الاخري وناقش وعدل واجري صياغات اخري لمشروع القانون.. ونأمل ان يحظي مشروع قانون الجامعات الجديد بنفس المعالجة.. ايها السادة لابد ان نستمع لبعضنا البعض ولا يمكن ان نتكلم جميعا ولا احد يسمع لان هذه السلوكيات اذا اصبحت جزءا من الثقافة العامة والسلوك العام فانها تجعلنا في سيرك كبير. واذا كان لنا ان نهمس برجاء اخير هنا فهو اننا كنا نريد ان نسمع رأي وصوت المجتمع المدني بمنظماته وجمعياته المختلفة في فواتير الحديد المضروبة التي اغرقت سوق الحديد حيث لجأ تجار الحديد لتحرير فواتير باقل من الثمن الحقيقي للبيع وتحصيل الفرق خارج الفواتير.. اننا ننتظر دورا اقوي من منظمات المجتمع المدني، نريد ان نراها تتكلم ونستمع اليها. أيها السادة علينا ان نتكلم وان نسمع ونستمع حتي تنصلح الاحوال وتصح البلاد والعباد.