أثارت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة للهند قلقا بل انزعاجا شديدا في الأوساط السياسية في البيت الأبيض الأمريكي خاصة وقد اسفرت هذه الزيارة عن اتفاقيات استراتيجية في مجالات مهمة منها قيام روسيا ببناء بعض المفاعلات الذرية الهندية. كما أشار البيان المشترك بين البلدين إلي رفض سياسة القطب الواحد والسعي إلي عالم متعدد الأقطاب اضافة إلي تصريحات بوتين في مؤتمره الصحفي ومحاولة تكثيف التعاون في المرحلة القادمة بين الهند وروسيا والصين في إشارة واضحة وذات دلالة علي تحالف يضم أكثر من 40% من سكان الأرص ويسهم في الانتاج العالمي بنسبة تتراوح بين 15 و17%. والحقيقة أن الحوارات الساخنة بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس الأمريكي جورج بوش وادارته تكررت في السنوات القليلة الماضية خاصة بعد انتخاب بوتين في المرحلة الثانية. فهناك الحوار الملتهب والذي جري من نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني اثناء زيارة له لعاصمة لتوانيا احدي جمهوريات البلطيق والاتحاد السوفياتي سابقا، وبين فلاديمير بوتين الرئيس الروسي في خطاب أمام الدوما والذي رأي فيه الكثيرون تكرارا لما كان يجري بين زعماء الكرملين ورؤساء البيت الأبيض أيام الحرب الباردة والثنائية القضبية وإنقسام العالم إلي معسكرين. لقد هاجم ديك تشيني روسيا لإتباعها ما أسماه باستخدام البترول والغاز وسيلة للتهديد والابتزاز الديمقراطي، مشيرا إلي ما قامت به روسيا مؤخرا في الضغط علي أوكرانيا وبيلاروسيا، كما أشار نائب الرئيس الأمريكي إلي زيادة الانفاق العسكري الروسي. ويومها رد الرئيس بوتين في خطاب شهير له أمام الدوما - البرلمان - ليقول ساخرا بأن علينا الاعتراف بأن روسيا لم تصل بعد إلي مستوي الرفيق الذئب في الانفاق العسكري والذي يساوي الاتفاق الروسي أكثر من 25 مرة، ولم يترك بوتين فرصة للتخمين بمن يعينه بالرفيق الذئب الذي يعرف ما يأكله ولا يلتفت إلي أحد مع إشارة لا يخطئها أحد إلي سياسة الغزو والتوسع والحروب ومحاولة الهيمنة والسيطرة. وكان خطاب بوتين الذي ألقاه أمام البرلمان الروسي هادئاً واثقاً وغير منفعل في الشكل، وإن كان مضمونه قد حمل رسالة قوية إلي الإدارة الأمريكية بأن روسيا تملك خطابا دوليا يختلف عن الخطاب الأمريكي، وقد بات ذلك بوضوح في تحركات روسيا في العامين الأخيرين. فهو في زيارته الأخيرة للصين والهند يؤكد تدشين التحالف الاستراتيجي بين العمالقة الثلاث ويعطي دفعة قوية للعلاقات الاقتصادية والسياسية بينها، ففي زيارته للصين جري الاتفاق علي مشروع ديناصوري عملاق وذلك من خلال مد خطين لأنابيب الغاز الروسي إلي الأراضي الصينية عبر منغوليا هذا المشروع الذي قدرت تكاليفه البيئية بعشرة مليارات من الدولارات، كما اتفق علي اعداد دراسة جدوي لمشروع عملاق آخر خاص عبر أنابيب البترول من سيبريا إلي الصين. وفي الهند يعلن بوتين قيام التحالف الاستراتيجي مع العملاق الآسيوي الآخر في قضايا استراتيجية مثل المفاعلات النووية وهو الأمر الذي أزعج كثيرا الأوساط السياسية والاقتصادية الأمريكية بإعتبار أن هناك غزوا روسيا لأكبر سوقين في آسيا بل في العالم وهما الصين والهند. وتوقف الكثيرون حتي داخل روسيا نفسها عن اللهجة بل والسياسة الجديدة التي يتبعها الرئيس الروسي في ولايته الثانية في مواجهة السياسات الأمريكية في إيران والعراق والشرق الأسوط ومحاولة روسيا للتواجد النشط من جديد في المنطقة، كذلك موقف روسيا الأخير في قمة الثماني الكبار خاصة فيما يتعلق بنظام التجارة العالمي والوضع في الشرق الأوسط والشراكة مع افريقيا. لهذا انتهج الرئيس الروسي بوتين في مرحلة ولايته الأولي ما يمكن ان نسميه بالسياسة الهادئة مع الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص، وعندما توسع حلف الاطلنطي ليشمل دولاً كانت ضمن الاتحاد السوفيتي السابق اكتفي بالاحتجاج الهاديء وعدم التصعيد رغم تحذيرات سابقة من أن وصول حلف الأطلنطي إلي أطراف الحدود الروسية يمثل انتهاكا وتهديدا للأمن القومي الروسي. ولكن بوتين المهادن في ولايته الأولي داخليا وخارجيا يتحول في ولايته الثانية إلي مهاجم وأحيانا إلي مهاجم شرس، فهو يهاجم أباطرة القطاع الخاص في روسيا الذين تملكوا أغلب وسائل الانتاج في الاتحاد السوفيتي السابق وحولوه إلي امبراطوريات خاصة بل وسجن بعضهم ويقدم برنامجا للتطوير الاقتصادي يعتمد علي خفض معدلات التضخم وتحويل العملة الروسية إلي عملة جديدة تنافس اليورو والدولار خلال أعوام ثلاثة. ثم يعقد تحالفات استراتيجية من عملاقي آسيا - الصين والهند - ويدعم مجموعة شنغهاي التي تضم الصين ودول وسط آسيا وجنوبها، ولا يترك فرصة متاحة إلا ويهاجم القوي الدولية التي يتهمها بأنها تحاول منع روسيا من أن تلعب دورها العالمي كقوة مستقلة واثقة. تري هل يقوم موقف بوش الجديد علي تحليل معمق لما يجري علي الساحة الدولية ومحاولة الاستفادة من التغيرات التي تجري والتي يمكن أن تصب في طاحونته الخاصة بعد الورطة الأمريكية في العراق والتي تحولت بالفعل إلي كابوس ثقيل قد تنهي مرحلة القطب الواحد الذي ظل مهيمنا علي السقف العالمي عسكريا واقتصاديا طوال العقدين الماضيين. أم انه يعمل علي توسيع الهوة القائمة بالفعل بين السياسات الأوروبية والسياسات الأمريكية في محاولة لرفع الشعار القديم الجديد الخاص بالبيت الأوروبي الواحد من جبال البرانس وحتي جبال الأورال بديلا عن البيت الاطلنطي الذي يضم ضفتي الاطلنطي المتباعدة - أمريكا وأوروبا. والذي لاشك فيه أن فلاديمير بوتين الذي امتزجت في تكوينه القومية الروسية والاشتراكية السوفيتية من السهل عليه أن يتبين ان هناك مؤشرات هامة تجري علي النطاق العالمي قد يكون لها انعكاسات واسعة في المستقبل ومن الضروري استغلالها مثل ذلك الذي جري في الهند والصين والبرازيل حيث تتقارب المصالح الاقتصادية لهذه الدول العملاقة والتأكيد بأنه اذا كانت الايديولوجيا تفرق فإن الاقتصاد يوحد، وبوتين لا تنقصه الحسابات التي تقول بأن دولا كبيرة مثل الصين والهند والبرازيل تلعب دوراً مهما في الاقتصاد العالمي وتجمعه مع روسيا كثير من الأهداف المشتركة، علي الأقل عدم انفراد قطب واحد بالهيمنة والسيطرة علي مقدرات العالم. ولاشك أن اتجاه روسيا إلي الشرق مرة أخري، إلي الصين والهند والشرق الأوسط هو الذي أصاب الأوساط الأمريكية بالقلق خاصة وأن روسيا كانت خلال حقبة التسعينيات وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي مندفعة في الاتجاه غربا والاعتماد علي الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص لحل مشاكلها الاقتصادية، ولكن يبدو أن القرار النهائي الذي توصل اليه الرئيس الروسي ومجموعته المشكلة من الخبراء العسكريين والاقتصادييين الذين كان لهم دور فاعل في السياسة السوفيتية هو الاتجاه شرقاً باعتباره الخيار القادر علي حل كثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية وإعادة ابراز الدور الروسي علي النطاق العالمي. ويشهد العالم حاليا ميلاد قطب جديد نشأ عن تحالفات استراتيجية بين دول كبيرة في حجم الصين والهند وروسيا ويقوم علي أسس من المصالح المشتركة ومواجهة الأخطار المشتركة أيضا. فهل ينجح الاقتصاد فيما فشلت فيه الأيديولوجيا.