إكرام يوسف أثارت التغطية الإعلامية لوفاة الرئيس التركماني صابر مراد نيازوف مؤخراً شعف العديدين للتعرف علي الشخصية الأسطورية التي رسمتها وسائل الإعلام لرئيس جمهورية فرض علي شعبه في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين نظام حكم أشبه بما كنا نسمع عنه في حواديت مثل ألف ليلة وليلة. وأفاضت وسائل الاعلام الغربية بالذات في وصف غرابة أطوار رئيس "فرض" علي شعبه تعيينه رئيسا مدي الحياة وفق سياسة عبادة الفرد وطارد معارضيه - الذين لابد بالطبع ان يذهب معظهم للعيش في الولاياتالمتحدة انتظاراً للحظة مواتية وفق سيناريوهات تكررت في عدد من بلدان العالم - وسلطت الأضواء علي قرارات غريبة اتخذها نيازوف من قبيل نشر تماثيله وصوره في ربوع البلاد، وتغيير أسماء شهور السنة، وتأليف كتاب "روح نامة" الذي حوي أفكاره وتجلياته الروحية (ورغم ما حملته التغطيات الإعلامية من سخرية إلا أن الشركات الأجنبية الطامعة في ثروات تركمانستان تسابقت لترجمة الكتاب بدعوي الاستفادة من حكمة تركمان باشي، ومن ثم ترجم إلي نحو 30 لغة من الانجليزية إلي لغة الزولو، كما ترجمته شركة "أطلس كوبكو" السويدية مباشرة قبل اختيارها كمورد أوحد لمعدات انشاء الطرق، فضلا عن انشاء أكبر مسجد في آسيا الوسطي، غير انه لا يكاد يكون هناك من تساءل واين كانت الولاياتالمتحدة راعية الحريات التي لا تردد في تجييش الجيوش وارسال قواتها لتوصيل الديمقراطية إلي الشعوب التي تعاني من الديكاتورية بنظام "َهوم دليفري" لتوصيل الديمقراطيات إلي المنازل، ولماذا لم تشن الحملات الإعلامية الغربية للتنديد بالحاكم الذي خاصم الديمقراطية وارتكب انتهاكات لحقوق الإنسان؟ في تركمانستان التي كانت احدي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والتي تقع علي حدود افغانستان وايران وتحوي أكبر احتياطي للغاز في آسيا الوسطي. ولعل السبب يقع بالذات في هذه الحقيقية: انها احدي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ومازالت ترتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا، ومن ثم كان من الطبيعي ألا يكون اقتراب واشنطن منها بنفس الوضوح الذي استخدمته مع بلدان اخري - تعيش في ظل حكم ديكتاتوري من وجهة النظر الغربية وتملك بالصدفة في كل مرة ثروات طبيعية تسيل لعاب الاحتكارات الكبري المسيطرة علي دفة الحكم في الولاياتالمتحدة - وكان نيازوف الذي درس هندسة الطاقة، يدرك بالطبع الأطماع الغربية في ثروات بلاده، ويعرف أن بلاده وهي دولة معزولة عن العالم عمليا، لكنها تلعب دورا متناميا في قطاع الطاقة يتخطي حدودها، وتثير احتياطاته من الغاز الطبيعي شهية عدد كبير من المشترين مما يؤجح الخصومات الجيوستراتيجية في آسيا الوسطي بين الصين وروسياوالولاياتالمتحدة، ومن هنا كان حرصه علي تنويع علاقاته في هذا المجال ضمن الخصوم المعروفين لواشنطن في المنطقة. ورغم أن وكالات الأنباء الغربية تعزو ذلك إلي أن هذه البلدان أقل تطلبا وإلحاحاً علي حقوق الانسان من الولاياتالمتحدة وفق ما ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية إلا أن هناك من يرون أن الرجل كان مدركا للأطماع الغربية في ثروة بلاده، وحريصا في نفس الوقت علي عدم تبعية هذه الثروة لطرف معين، فرغم العلاقات القوية مع روسيا، وحقيقة أن شبكة الغاز التركماني، إلا أن نيازوف بذل جهودا مستمرة لزيادة أسعار غاز بلاده بعد أن وضع حدا في نهاية مايو 2005 لنظام مقايضة الغاز ببضائع روسية، حتي أنه أعرب أكثر من مرة عن حرصه علي تقوية علاقاته في مجال الطاقة مع كل من الصين وإيران. وفي ابريل الماضي وقعت الصين صفقة لشراء الغاز من تركمانستان، ووافقت الحكومة الصينية علي انشاء خط إلي 30 مليار متر مكعب (تريليون قدم مكعب) سنويا ويتكلف عدة مليارات من الدولارات، وتشير الاحصائيات في نهاية 2005 إلي أن احتياطيات تركمانستان المؤكدة من الغاز بلغت حوالي 2900 مليار متر مكعب، بما يضعها في المرتبة الثانية عشرة عالميا، بحسب مجموعة "بي بي" النفطية، لكن موقع تركمانستان الجغرافي في جنوب شرق بحر قزوين بجوار دول مثل افغانستان وايران يعقد صادراتها من الغاز إلي الأسواق الغربية وآسيا. وعلي الرغم من دعوات الولاياتالمتحدة لبناء أنابيب غاز جديدة انطلاقا من تركمانستان للالتفاف علي روسيا، فإن الرئيس نيازروف طمأن موسكو في سبتمبر الماضي علي تمسكه بالشركة مقابل أسعار مرتفعة جدا، ويبدي الغربيون قلقهم من جهة أخري حيال إمداداتهم من المجموعة الروسية العملاقة الناشطة في قطاع الغاز "غازبروم" التي تملك احتياطيات ضخمة ولكنها لم تستثمر ما فيه الكفاية بنظرهم لتوسيع طاقات الاستخراج لديها الأمر الذي يدفعها إلي شراء الغاز التركماني لضمان تسليم الشحنات إلي زبائنها في الوقت المحدد. ولعل هذا هو السبب في أن وفاة صابر مراد نيازوف اثارت مخاوف الأوروببين وفجرت احتمالات ازمة جديدة في امدادات الغاز الطبيعي ناجمة عن الصراع علي الطاقة، وهو بالطبع