وزارة الداخلية في كل بيت وعمارة هو البواب.. فهو الذي يعرف جميع التفاصيل عن حياة السكان، بل وكاتم أسرار البعض لدرجة أنه أحيانا يطلع علي أسرار لا يعرفها بعض أفراد نفس الأسرة. الطريف أن كل واحد يعتقد أن بقية السكان يجهلون عن حياته الشخصية وتفاصيله العائلية كل شيء، خاصة ما قد يسبب له حرجا، لكن البيه البواب لا يخفي عنه كبيرة أو صغيرة، ومصادر معلوماته هي غالبا حقيقية لأنها تستوفي من داخل الأسرة نفسها. فالأطفال ناقلو معلومات وأسرار بامتياز، وهم يتبعون الصدق والأمانة في نقلهم للتفاصيل بدقة متناهية والبواب الذي يوصل الأولاد إلي المدارس أو لأتوبيس المدارس ويحصل منهم علي كل الأسرار بمحض إرادتهم، وأحيانا يكون رب الأسرة أو الزوجة من يسري ببعض تلك الأسرار للبواب إذا كان هناك احتياج له في إنجاز بعض المهمات لهذا الطرف أو ذاك. وكم من مصائب عائلية حدثت.. والبواب هو الذي كشف عن غموضها: زوج خائن.. اتخذ عشيقة أو زوجة "عرفيا"، أو حتي زوجة ثانية دون أن تعلم الزوجة الأولي والأبناء.. وتجد البواب أول من يعلم، بل قد يكون مصدرا لتسريب تلك المعلومة، وإذا كان البواب شريرا فالمعلومة المهمة تتحول إلي وسيلة للتكسب منها والابتزاز. في إحدي المرات توفي زوجان في شقتهما ليلا بسبب تسرب للغاز أثناء النوم، ولم يكن سكان العمارة يدرون شيئا عن جارهم.. لكن البواب كان يعلم أن تلك المرأة هي الزوجة الثانية "عرفيا"، وأنها ارتبطت ب "الباشا" منذ أكثر من أربع سنوات، دون علم أفراد عائلته، وقد اعتاد أن يقضي معها بعض الوقت نهارا أو ليلا كلما سنحت له الظروف، ومن وراء زوجته وأولاده.. وتسببت تلك الحادثة في فضيحته وهو ميت، وكشف البيه البواب جميع تفاصيل الفضيحة أمام الشرطة وفي حضور الأسرة. وإذا أردت أن تسأل عن شخصية "عريس" متقدم لخطبة ابنتك، فلا تسأل عنه في مكان عمله، أو أصدقاءه، لأننا شعب نعشق الدبلوماسية بشقها السلبي طبعا، وهو اتباع السلامة، والسلامة هنا قد تعني النفاق.. لكن لو سألت بواب عمارة العريس، ووضعت عشرة جنيهات في جيبه، فسوف يكتسب شجاعته المعهودة بعدما يدفئه المال، وسيحكي عن شخصية العريس منذ ولدته أمه، إذا كان سويا خلوقا متدينا، وإذا كان بخيلا أم سخيا، ونوعية أصدقائه، إذا كانوا أصحاب سوء "يضربون" البانجو، أو يقضون سهرات حمراء، أم يصلون مع بعضهم الفجر جماعة في الجامع ويعقدون جلسات الدعوة، أو إذا كان ابن أمه، ودلوعة العائلة، وشخصيته ضعيفة، أم له شخصية مستقلة وجدع وبار بوالديه.. المهم، عند البواب تجد القول الفصل! ولا تتخيل أن البواب هو دائما من يفشي الأسرار، ويعرّي المتغطي، فهناك بوابون هم نعم الصاحب والصديق، وخير من الأهل، يحتفظون بقصص الاَخرين وحتي بمكنوناتهم، وأكثر أمانة علي الأسرار من أصحابها أنفسهم. فالبواب مثل باقي البشر، معادن مختلفة ومتفاوتة القيمة، ومنهم من توارث هذه المهنة أبا عن جد، وخَبر أصولها، فاتبعها وحافظ علي معني وقيمة الأمانة التي تميز بها. ولكن طرأت علي هذه المهنة هي أيضا عناصر دخيلة، نالها من الأمراض والسلوكيات المنحرفة ما نال المجتمع ككل. وخير من عمل في مهنة البواب الصعايدة من أبناء أسوان.. وقد صدروا البواب المصري كمهنة عنوان للأمانة إلي العديد من الدول العربية خاصة في دول الخليج، لكن حل محلهم في السنوات الأخيرة البوابون السودانيون وأصبحت لهم سمعة طيبة في الدول العربية وميزات عديدة جعلتهم يتفوقون علي ابن كارهم البواب المصري. ولعل أفضل عمل سينمائي قدّم البواب والتغيرات التي طرأت علي هذه المهمة وعلي المجتمع المصري ككل هو "البيه البواب" الذي أبدع فيه النجم العبقري الراحل أحمد زكي دور البواب. وإذا أردنا أن نعرف جميع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت علي مصر خلال السنوات الأخيرة فلابد أن نتفحص البواب، ومن خلاله السكان لنري أمراضنا ومناطق الضعف في سلوكياتنا والخلل الذي أصاب حياتنا ومعيشتنا. إن البيه البواب أهم من وزارات الداخلية والدفاع والشئون الاجتماعية والصحة، بل حتي رئاسة الوزراء.. "يعيش البيه البواب"!