أصبح معروفا للجميع أن الاقتصاد الأمريكي دخل مرحلة تباطؤ في النمو وأن السبب في ذلك هو الانكماش الشديد لفقاعة قطاع الإسكان التي كانت تمكن المستهلكين الاَن من أن يتحول هذا التباطؤ في النمو إلي ركود.. وبغض النظر عن هذه العوامل الخاصة بالدورة الاقتصادية فإن الاقتصاد الأمريكي يعاني هبوطا اَخر سوف يستمر لعدة سنوات قليلة قادمة وهو هبوط معدل النمو الذي لا يترتب عليه حدوث زيادة في التضخم أي معدل النمو غير التضخمي إلي 2.5% فقط وهو أدني مستوي له خلال المائة سنة الأخيرة. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن عواقب هذين الهبوطين ستكون خطيرة فنمو الدخول الخاضعة للضريبة سوف يتباطأ بدوره وتصبح إدارة السياسة النقدية الأمريكية مسألة أصعب.. ومن خبرة عقد السبعينيات نستطيع القول بأن التضخم يمكن أن ينفلت إذا لم يستطع البنك المركزي الحد من سرعة النمو الاقتصادي.. كما ستضطرب الأسواق المالية إذا هبط النمو عن مستواه المتوقع "3 3.5% سنويا" ووضع المستثمرون حدودا لتوقعاتهم. ويجب أن نضع في الاعتبار أن قياس النمو الاقتصادي مسألة صعبة كما أن التنبؤ به مسألة أصعب لأنه يتضمن البحث عن عناصر عديدة ومعقدة ومتشعبة وبعضها معنوي تماما.. وعموما فإن النمو الاقتصادي علي المدي الطويل يعتمد علي عاملين هما الزيادة في عرض وإنتاجية العمل.. والزيادة في عرض العمل بدورها تعتمد علي الزيادة في عدد السكان الذين هم في سن العمل وعدد ساعات العمل التي هم علي استعداد لبذلها.. أما الزيادة في إنتاجية العمل فهي تعتمد علي الاستثمار الرأسمالي وتحسين أداء الشركات والابتكارات التكنولوجية، ومن حساب هذه العناصر جميعا يمكن حساب حجم الإنتاج المحتمل في المستقبل. ولكن هذه كما قلنا مسألة صعبة.. فمن المعروف أن النمو في عرض العمل وإنتاجيته يتراجعان خلال فترة هبوط الدورة الاقتصادية.. فعندما تتجه الدورة الاقتصادية نحو القاع يخرج الكثيرون من سوق العمل ويتباطأ نمو الإنتاجية أو حتي يتوقف.. من التاريخ الاقتصادي الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية تلاحظ أن معدل النمو المحتمل غير التضخمي في الستينيات زاد إلي نحو 4% سنويا أما في السبعينيات، فقد هبطت الإنتاجية لأسباب غير مفهومة وجذبت معها معدل النمو المحتمل إلي أسفل وفيما بين السبعينيات والتسعينيات كان معدل النمو المحتمل للاقتصاد الأمريكي دون زيادة في معدل التضخم يدور حول 3% سنويا وكان نصف هذا المعدل يأتي من التوسع في حجم القوي العاملة والنصف الاَخر يأتي من الزيادة في الإنتاجية. وبفضل حدوث زيادة أكبر في الإنتاجية وحجم قوة العمل زاد معدل النمو غير التضخمي في منتصف التسعينيات فجأة زيادة كبيرة.. وبعد ركود عام 2001 عادت الإنتاجية إلي التزايد الكبير مرة أخري في حين تباطأ النمو في عرض العمل بحدة.. ولاتزال حالة عرض العمل علي ما هي عليه تقريبا رغم توسع الاقتصاد الأمريكي في السنوات الخمس الأخيرة وهذا هو السبب الرئيسي لهبوط معدل النمو غير التضخمي في أمريكا إلي 2.5% فقط كما ذكرنا من قبل. والسؤال الاَن هو لماذا يحدث هذا التباطؤ في عرض العمل ويتناقص عدد الأمريكيين الراغبين في العمل؟ الحقيقة أن هناك ثلاثة أسباب لذلك أولها هو أن نسبة السكان في الفئة العمرية 55 64 سنة قد زادت من 10.5% عام 1995 لتصبح 13.3% عام 2005 وستصل إلي 16% في عام 2015 ولاشك أن الناس فوق 55 سنة يعملون أقل كثيرا من الشباب. أما السبب الثاني فهو أن إقبال النساء الأمريكيات علي العمل قد تراجع نموه.. فنسبة الراغبات في العمل قفزت من 40% عام 1960 لتصبح 60% عام 1999 من إجمالي النساء الأمريكيات في سن العمل ثم عادت هذه النسبة إلي التناقص بعد هذا التاريخ. والسبب الثالث هو تراجع نسبة الشباب العامل تحت سن العشرين.. ففي التسعينيات كان 50% من الشباب في الفئة العمرية 16 19 سنة يعملون، أما الاَن فقد هبطت النسبة إلي 40% فقط حيث أصبح الشباب تحت العشرين يفضلون الاستمرار في التعليم علي الخروج إلي العمل المبكر. وبتضافر هذه العوامل الثلاثة يتوقع خبراء بنك الاحتياط الأمريكي ألا تتجاوز نسبة الزيادة السنوية في عرض العمل في السوق الأمريكي 0.4% في عام 2010 وهو نصف نسبة الزيادة الحالية سنويا في عرض العمل أو أقل من ذلك. ولزيادة عرض العمل تقول "الإيكونوميست" إن أمريكا قد تلجأ إلي تشغيل كبار السن أو إلي فتح أبواب الهجرة أمام الأجانب ولكن هذين العنصرين ترد عليهما تحفظات كثيرة تجعل الاستفادة منهما في زيادة عرض العمل خلال السنوات القليلة القادمة استفادة محدودة. ومن سوء الطالع أن نمو الإنتاجية يتباطأ هو الاَخر بشكل غير متوقع، ففي القطاعات غير الزراعية كانت الزيادة في الإنتاجية 4% سنويا في عامي 2002 و2003 تراجعت في السنوات الثلاث الأخيرة إلي 2% فقط سنويا.. أما في القطاعات الزراعية فقد كان نمو الإنتاجية بمعدلات أقل من ذلك كثيرا. وهناك من يري أن ما حققه الاقتصاد الأمريكي في السنوات الخمس الأخيرة لم يكن وليد الابتكار وإنما سياسات خفض التكاليف.. ويستدلون علي ذلك بانخفاض إنفاق الشركات علي تكنولوجيا المعلومات إلي 5.5% فقط في تلك السنوات الخمس بعد أن كان 20% سنويا خلال حقبة التسعينيات وهذا معناه الوحيد أن الاقتصاد الأمريكي فقد قدرته الدافعة علي الابتكار. باختصار، فإن معدل النمو المستقبلي المحتمل للاقتصاد الأمريكي يتجه إلي الانخفاض لسبب بسيط هو أن كل العناصر المكونة له تتراجع عما كانت عليه سواء في عقد التسعينيات أو في سنوات أخري قبل ذلك.