قرأت أن قرارا من رئيس الوزراء تم استصداره بفرض غرامة تقدر بعشرة اَلاف جنيه علي كل منزل يحتفظ بدواجنه ويرفض التخلص منها أو ذبحها.. وأعتقد أن القرار لابد أن يشدد للحبس مع الغرامة؛ لأن الناس البسطاء يعلمون أنهم لن يستطيعوا دفع الغرامة وبالتالي سيعمدون إلي التسويف في تنفيذ المطلوب منهم.. ولابد أن يعلم الناس بشكل واضح وجازم أن حياتهم أهم من الطيور.. وسلامة أطفالهم أغلي من أية خسائر مادية حتي لو كان يشكل المخزون الاستراتيجي من الغذاء البروتيني ومصدر الدخل الرئيسي الذي يتم بفضله تمويل الطوارئ من مرض ودواء، ومن مصاريف الدروس الخصوصية وتكاليف لوازم الأعياد والمواسم، أو أي مناسبات وأحداث طارئة. وعلي قدر ما أضحكتني صور عديدة شاهدتها لدي زيارتي لتصوير تقارير تليفزيونية في الهيئة العامة للخدمات البيطرية وأمام معمل التحاليل التابع لوزارة الزراعة.. علي قدر ما أضحكتني علي قدر التعاطف الذي شعرت به مع الناس الذين جاءوا يحملون عينات لدواجن مشتبه باصابتها بالمرض. مواطن من منطقة ميت عقبة يكاد يبكي حزنا لدي علمه أن العينة التي أحضرها ايجابية.. قال: إن الدجاج والإوز والبط الذي يربيه داخل شقته هو كل ما يملك من مدخرات.. بل إنه يعتمد عليه في أكل أسرته، ويبيع منه لينفق علي أبنائه، ويوفر من عائده مصروفات المدارس اليومية، واللبس في الأعياد، ويحتفظ بجزء من المدخرات حتي يشتري به الكتاكيت، الرجل يكاد يجن وينحب حظه.. متسائلا في تشاؤم واضح: ماذا سيفعل؟ وكيف سيوفر غذاء أبنائه؟ شخص اَخر يبدو أنه موظف.. العينة التي يحملها ايجابية أيضا.. أخذ يحدثني عن صعوبة بل استحالة اقناع "أم العيال" بذبح فراخها وبطها.. فهي تقضي معها يوميا فترة طويلة.. تشرف علي تغذيتها وتطمئن علي البيض وعلي عملية "الفقس" وهي تحافظ عليها "للمواسم" حيث تعزم أبناءها وأسرهم وفقا للتقاليد.. اضافة إلي أن البروتين الحيواني شبه الوحيد الذي تتغذي الأسرة عليه مصدره عشة الفراخ فوق السطوح.. الرجل توصل أخيرا إلي أنه لا توجد طريقة لدفع زوجته للتخلص مما لديها باستثناء أن يرمي عليها "يمين" الطلاق!! أما القصة الأخري فشديدة الواقعية والألم.. فهي لسيدة مسنة أصابتها نوبة سكر وأغمي عليها بمجرد أن علمت أن العينة التي جلبتها معها للتحليل مصابة بانفلونزا الطيور.. وعندما أفاقت دخلت في نوبة بكاء وصراخ مرددة أن "فراخها زي عيالها" وهي "متقدرش" تذبح عيالها! وانغمست بدوري في نوبة من الضحك ليس سخرية لا سامح الله وإنما من فرط المفارقة، وخاطبها اخصائي المعمل المسئول قائلا: "يا ست.. عيب.. أنت وأولادك أهم من الفراخ.. ولو عايزة تحافظي علي حياتكم لازم تتخلصي من طيورك وتحرقيها!" ولا أعتقد أن هذه السيدة وغيرها وصلتها تلك الرسالة.. وهذه في رأيي هي مصيبتنا الحقيقية.. فالناس لديها تراث من الكذب يحول دون تصديقها لأي كلام تقوله الحكومة أو أي جهة تابعة لها، فقد تعودوا ألا يصدقوا الحكومة، حتي لو كانت هذه المرة قررت أن تلتزم الشفافية والصدق، وهذه القضية ذكرتني بقصة "الراعي الكذاب" التي كانت جدتي ترويها لنا ونحن صغار، لتحثنا علي الصدق وقول الحق، فراعي الأغنام يخرج يوميا بخرافه.. وخطر له مرة أن يصرخ مستغيثا بأهل القرية مدعيا أن الذئب هاجم ماشيته، ولكن اكتشف أهل القرية عندما هبوا لنجدته أنها خدعة كاذبة.. وفي المرة التي استغاث فيها بأهل القرية لأن الذئب هاجمه فعلا.. لم يهب لنجدته أحد، وأكل الذئب خرافه!.. والخوف كل الخوف أن تكون انفلونزا الطيور كالذئب تأكل الدواجن والبشر معا لأن تراث الحكومة مع شعبها لايسعفها لكي تؤسس علاقة صادقة مبنية علي الشفافية والصراحة.. فلماذا يصدقها المواطن حكومته هذه المرة؟! والكارثة الأخطر.. ما رواه لي زملاء يقطنون المناطق الريفية القريبة من القاهرة والواقعة علي الترع والمصارف، حيث عمد الأهالي إلي إلقاء دواجنهم النافقة أو المشتبه في اصابتها في النيل.. وهذا خطر داهم نحتاج من شرطة المسطحات ووزارة البيئة والصحة أن تتخذ اجراءات سريعة بشأنه.. ليس فقط لمنع المزيد من المخلفات القاتلة فيه ولكن لاتخاذ التدابير حتي تصلنا مياه الشرب سليمة.. خاصة في المناطق التي تعاني أصلا من مشكلة تلوث في المياه خلال الأيام العادية لمنع المزيد من المصائب التي تحل علي رؤوس الغلابة ويتضررون منها أكثر من أي فئة أخري في المجتمع. والحقيقة أن الكثير من التحليلات والشائعات ازدهرت في الفترة الأخيرة حول انتشار فيروس انفلونزا الطيور، وقد وصلني عن طريق الفاكس بعض الأوراق التي لا أدري مدي أهميتها أو مدي صدقيتها وأوردت بعض المعلومات والأرقام عن تورط من أطلقت عليهم بمافيا السلاح وشلة المتاجرين في دماء البشر وحددت شركة جالدساينس صاحبة عقار "تامي فلو" والتي كان يرأسها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي خلال أعوام 1997 إلي 2001 وتشاركها شركة روش للأدوية باعتبارهما المسئولتين عن الدعاية لانتشار مرض انفلونزا الطيور حتي يروجا للعقار الذي تضعه هذان الشركتان.. وتشير المعلومات الواردة إلي أن سعر سهم الشركة تضاعف 700%(!!) بعد إدعاء أن "التامي فلو" علاج فعال "وسحري" لهذا الفيروس.. بينما الحقيقة أن السحر هو ماحدث لأسهم الشركة من فقاعات وأرباحها الخيالية من المبيعات الجديدة التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.. حيث أن سعر القرص الواحد قبل هذه التمثيلية كان ثمنه 20 جنيها وارتفع إلي 200 جنيه.. مع استحالة توافره في الصيدليات. ربما تكون هذه التحليلات المبنية علي أرقام حقيقية قد اعتمدت علي نظرية المؤامرة التي تقف وراء كل كوارثنا.. لكن بالتأكيد فإن وجهات النظر هذه ليست عارية من الصحة تماما، بل هناك احتمالات كبيرة لصحة جزء إذا لم يكن كل ما ورد بها!