لن تصبح صحافتنا "القومية" قومية فعلاً إلا إذا أصبحت "صحافة" حقاً! هذه هي القاعدة الذهبية التي تعلمتها من أساتذة كبار في الصحافة، ونصحت بها نفسي حينما صرت رئيساً لتحرير مجلة أسبوعية لها تاريخ طويل وتتمتع بمصداقية كبيرة لدي الصحفيين والقراء معاً. وحتي تصبح صحافتنا القومية صحافة حقاً فانها يجب أن تعي مهمتها الأولي وهي خدمة القارئ أساساً لا خدمة مسئول هنا أو آخر هناك، أو خدمة رجل أعمال هنا وآخر هناك. وخدمة القارئ تقتضي ابتداء عدم خداعه أو غشه والضحك عليه أو السخرية منه، إما بحجب الحقيقة عنه بشكل بات مكشوفاً ومفضوحاً في ظل وجود صحف حزبية وأخري تسمي مستقلة تتنافس علي إعلام القارئ بالأخبار والمعلومات من وجهة نظر أصحابها، وإما بتشويه الحقيقة بشكل متعمد ومقصود صار القارئ يعتبره إهانة له، يردها بانصرافه عن مثل هذه المطبوعات الصحفية فيتراجع توزيعها. كما أن خدمة القارئ تقتضي الحرص علي عدم خلط الإعلام بالإعلان فيما تنشره المطبوعة، حتي لا تتحول المطبوعة إلي نشرة إعلانية لا تخدم سوي المعلنين، ولا يهمها سوي من يدفع ثمن الإعلان. وخدمة القارئ كذلك تقتضي ألا يضيق صدر المطبوعة الصحفية بالآراء المختلفة والمتنوعة طالما تكتب وتقدم بدون سب أو قذف ضد أحد، وبدون ابتزاز أحد لتحقيق مآرب شخصية للعاملين في المطبوعة. ولن تستطيع المطبوعة الصحفية أن تخدم القارئ حقاً إلا إذا كان يعمل فيها صحفيون وليس مجرد موظفين يحملون بطاقات نقابة الصحفيين، أو مجرد مندوبين للوزارات لدي الصحيفة أو المجلة، أو مندوبين لدي رجال الأعمال لدي المطبوعة الصحفية، وذلك لأن الصحفي يعرف أن المطلوب منه ليس إرضاء هذا المسئول، أو رجل الأعمال ليظفر بمجاملاته وهباته، إنما المطلوب هو أساساً إرضاء القارئ الذي يدفع ثمن المطبوعة ويتوقع أن يحصل في المقابل هذا الثمن المدفوع علي خدمة صحفية حقيقية في شكل خبر صادق ومعلومة حقيقية، وحوار جاد لا يستهدف تلميع مسئول أو الترويج لرجل أعمال وأنشطته، وأيضاً تحليل موضوعي لا يلوي عنق الحقيقة أو يشوهها بشكل متعمد مع سبق الإصرار والترصد. ولن تستطيع المطبوعة الصحفية أن تخدم القارئ حقاً إذا تخلت عن ممارسة النقد وكشف الأخطاء وفضح الخطايا ومساءلة المتورطين في ارتكاب هذه الأخطاء والخطايا، وتحولت إلي نشرات دعائية باهتة لا تفعل شيئاً سوي الهتاف والتصفيق، بل والدفاع عن الفاسدين، لأن القارئ منذ أن ظهرت الصحافة وهو يري فيها أداة تنوير ووسيلة من وسائل الإصلاح في المجتمع، ويعتبرها سلطة إدعاء شعبية يكمل دورها ما تقوم به سلطة الإدعاء القضائية من واجبها أن توجه الاتهامات، وليس من حقها إصدار الأحكام النهائية لأن ذلك من سلطة القضاء وحده. وفي سبيل خدمة القارئ يجب أن تتحمل المطبوعة الصحفية ما سوف تتعرض له بالطبع من ضغوط شتي من الذين لا يقبلون أن يوجه لهم أحد نقداً ويعتبرون ذاتهم مصونة وأعمالهم وقراراتهم وتصرفاتهم مقدسة.. ولن تقوي المطبوعة علي تحمل هذه الضغوط إلا إذا مارست النقد بطريقة صحيحة وسليمة في إطار ميثاق الشرف الصحفي، أي أن يكون نقدها موضوعياً ولا يستهدف سوي الصالح العام، وليس بغرض الابتزاز أو تحقيق المنافع الخاصة، أو لتصفية خصومات شخصية وسياسية. وحتي تقدر صحافتنا القومية علي أداء رسالتها السامية يجب تحرير المؤسسات الصحفية القومية من الديون التاريخية المتراكمة التي تكبلها وتدفعها لتقديم تنازلات شتي تؤثر بالسلب علي خدمة القارئ وتحولها إلي خدمة بعض المسئولين أو بعض رجال الأعمال فتخسر بذلك قارئها، لتزداد في النهاية أزمتها. إن كل مؤسساتنا الصحفية بلا استثناء، كبيرة أو غير كبيرة، تعاني من ديون ضخمة، ولا أريد أن أقول بشعة، لأن النسبة الغالبة منها فوائد خدمة ديون قديمة توقف سدادها عبر سنوات طويلة، بعضها منذ الستينيات حينما تم تأميم الصحافة وظهور الصحافة القومية، وبعضها الآخر تتراكم عبر السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وهذه الديون مرشحة بالقطع للزيادة بهذا الشكل لأن الهياكل المالية للمؤسسات الصحفية لا تقوي ولا تقدر علي الوفاء بهذه الديون في ظل عجز مزمن بين مواردها ونفقاتها، وحتي يتم إصلاح هذه الهياكل بعمل وأسلوب ومنهج مختلف سوف يمر وقت ليس بالقصير خلاله سوف يتراكم مزيد من الفوائد المستحقة لهذه الديون لتتبدد بذلك الجهود الضخمة المطلوبة لإصلاح الهياكل المالية لهذه المؤسسات لذلك يحتاج الأمر لخطوة شجاعة تحرر المؤسسات الصحفية من هذه الديون أو القسط الأكبر منها حتي لا تتفاقم مشكلاتها، وحتي تتمكن الصحافة القومية من أن تؤدي رسالتها وتمارس دورها كصحافة قومية فعلاً وليس قولاً فقط. وإذا كنا غيرنا أسلوب تعاملنا مع رجال الأعمال المتعثرين وسعينا لإجراء تسويات مالية معهم تم خلالها إسقاط فوائد الديون التي تراكمت عليهم وإعادة جدولة أصل الدين، فلماذا لا نفكر بنفس هذا الأسلوب مع المؤسسات الصحفية القومية؟ ويتعين أن يأتي ذلك بشكل عاجل بعد التغييرات التي جرت مؤخراً في قيادات المؤسسات الصحفية القومية حتي لا تسدد هذه القيادات فواتير غيرها ولا تخصها. وليكن اتخاذ مثل هذه الخطوة مقروناً بمحاسبة مستمرة وتقييم دوري مستقبلاً من قبل مجلس الشوري المالك الرسمي للصحافة القومية للأداء الاقتصادي والمالي والصحفي للمؤسسات الصحفية حتي نتمكن من تصحيح أي خطأ في المهد وهو صغير وقبل أن يتضخم ويتفاقم ويستعصي علي الحل والعلاج فيما بعد. فهل نفعلها؟ بصراحة شديدة لا سبيل آخر أمامنا إذا كنا نبغي حماية صحافتنا القومية ونحرص علي أن تؤدي رسالتها القومية. اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد..