ثورة الحرية «مجتمع الإنترنت الصيني هو الأكثر نشاطا وحيوية في العالم، فعدد المناقشات لا يعد، وموضوعاتها لا تحصي، ويتبادل الماديون والكونفوشيوسيون والحايكيون «نسبة إلي الاقتصادي الليبرالي فريدريك فون حايك»، يتبادلون الآراء اللاذعة والشتائم، ويتقاطر الصينيون من مستخدمي الإنترنت علي قراءة مدونات المثقفين الصينيين تقاطرا لا نظير له في الغرب، فسوق الأفكار في الصين ضخم». هكذا كتب أستاذ الاقتصاد الصيني «ياشنج هوانج» الذي يعيش ويعمل في الولاياتالمتحدةالأمريكية معلقا علي الأزمة المتفاقمة بين شركة «جوجل» والحكومة الصينية حول مراقبة الأخيرة للمعارضين، والقيود التي تفرضها علي حرية التعبير وحظر موضوعات البحث علي الإنترنت، ويطول هذا الحظر المتزايد آلاف الموضوعات التي يضاف إليها الجديد كل يوم مما حدا بالشركة إلي وقف نشاطها في الصين إثر معركة مع الحكومة الصينية. ومع ذلك فقد ارتفع حجم المعلومات الرقمية المخزنة في الشبكة الصينية الإلكترونية أكثر من 40% منذ عام 2005 حتي اليوم طبقا «لهوانج». وثمة وضع متناقض في الصين، فبينما تزداد بصورة فلكية أعداد المتعاملين مع الشبكة وغني وتنوع الموضوعات التي يعالجونها، تستشعر الحكومة الصينية الخطر من ثورة الحرية هذه فتزداد قبضتها عنفا رغم أنها هي نفسها - أي الحكومة - طرف أصيل في المناقشات التي تزداد اتساعا علي الشبكة. ويدلنا هذا الوضع علي حقيقة التقدم المتواصل في معيشة الصينيين، الذين يكتسبون قدرات مادية ومعرفية متزايدة، جعلت 300 مليون منهم يتعاملون مع الإنترنت، وليس هذا غريبا إذا عرفنا أن الصين تشهد أعلي مستوي نمو اقتصادي في العالم بلغ 10% طيلة أكثر من عقد، وكانت الصين واحدة من بلدان قليلة استطاعت أن تمتص بل وتتجاوز الآثار السلبية للأزمة التي ضربت الاقتصاد العالمي منذ عام 2008، وذلك بصرف النظر عن الجدل الدائر حول طبيعة هذا النمو في الصين، وهل هو جنين الاشتراكية كما تقول حكوماتها، أم هو انطلاق نحو الرأسمالية كما يري اقتصاديون تقدميون موثوقون. الشيء المؤكد في كل الحالات هو أن محاولات السيطرة علي ثورة الحرية التي تفتح لها شبكة المعلومات الدولية آفاقا بلا حدود محكوم عليها بالفشل في آخر المطاف، وأن هذه الثورة سوف تكتشف السبل والآليات والطرائق لتشق طريقها عبر الصعوبات، ورغم يقظة الأمن وذعر المسئولين، لأن الإنترنت سيكون جسرا إلي الشفافية والمساءلة باعتباره أقوي أدوات الديمقراطية التي ابتدعتها البشرية حتي هذه اللحظة. وعلي امتداد بلدان العالم الثالث يتعرض مدونون للملاحقة والاعتقال، بعد أن نجح بعضهم في تحويل الشبكة العنكبوتية من أداة اتصال لأداة تنظيم للأعمال السياسية الاحتجاجية، واستطاعوا حشد جماهير واسعة عبر هذا الاتصال، وهناك نموذجان ساطعان لهذه الحركة، المنتدي الاجتماعي العالمي في بورتو أليجري الذي انتظمت في صفوفه وفعالياته الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية فضمت ناشطين من كل أرجاء المعمورة تحت شعار العالم الأفضل ممكن، ونتجت عن هذا التواصل والتنظيم والنشاط أدبيات بلا حصر حملتها شبكة الإنترنت إلي كل أرجاء المعمورة، وفيها خصائص العولمة البديلة التي تتطلع إليها شعوب الأرض، وتنضجها كل أشكال عملها المنظم ضد الرأسمالية المتوحشة التي تتبادل خبراتها آلاف الجماعات المنظمة عبر العالم لتطور عملها وتجعله أكثر تماسكا. هذا علي المستوي العالمي. أما علي المستوي المحلي فإن النموذج البارز أمامنا هو حركة 6 أبريل، التي تكونت أساسا من شباب يحلمون بمستقبل أفضل لبلادهم لم تستوعبهم الحياة الحزبية القائمة والمقيدة والتقليدية، فخلقوا عالما خاصا بهم عبر شبكة الإنترنت، لاحقتهم أجهزة الأمن وحبست بعضهم وقدمتهم إلي المحاكمة، وزادت قبضتها - كما هو الحال في الصين - علي المدونين ونشاطاتهم والذين ازدادوا بدورهم عنادا وإصرارا وقدرة علي الابتكار والتحايل، كذلك نشأت حول الدكتور «محمد البرادعي» المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي طرح فور عودته إلي البلاد شعارات التغيير والديمقراطية حركة تتسع بمتوالية هندسية وتستخدم الإنترنت أداة تواصل وتنظيم، لن تستطيع قوة مهما بلغ بها عنف البطش أن توقفها، وإن كانت أسباب مجتمعية مثل انتشار الأمية الأبجدية بين ملايين المواطنين تحد من آفاق تطورها ومجال فعاليتها. نحن إذن بصدد ثورة للحرية إذ ينفتح أفق بلا حد علي كل الأصعدة العالمية والإقليمية والوطنية، جاعلا من شعار العالم قرية واحدة صغيرة حقيقة موضوعية، لتكون مسيرة البشرية نحو الانعتاق والكرامة قادرة علي استخدام هذه الأدوات الجديدة التي سبق أن أجادت قوي الرجعية والبطش والاستغلال استخدامها ضد الملايين، وقد آن الأوان أن تكون هذه الأدوات لهم لا عليهم.