د.رفعت السعيد مناضلون يساريون جورج بوانتيه وفيما كان بوانتيه يركب القطار ليبدأ رحلة السفر ليحارب في صفوف أعداء الهتلريين، همس في أذني قائلا «أنا أعرف أنني سأموت، وأرجوك أن تقول لزملائي في حزب العمل السويسري إنني ظللت مخلصا للشيوعية حتي نهاية حياتي» «من حوار أجريته مع هنري كورييل» نحن الآن مع شيوعي رومانسي، وربما هو نوع من هؤلاء المناضلين الذي ساقتهم رومانسيتهم وصفاء سريرتهم نحو فكرة كانت لم تزل غامضة في أذهان الكثيرين في مصر، فقد غلف شيوعيته الحازمة بغلاف رومانسي رقيق ومفعم بالحنان. يصرخ الكثيرون ضد النازية لكنه لا يعرف معني الصراخ بهدوء، رتب أموره وحزم أمره وسافر ليقاتلهم بالسلاح وليس بالشعارات، وجورج بوانتيه شيوعي سويسري، كادر من كوادر حزب العمل السويسري، حضر إلي مصر في بداية الثلاثينيات من عمره ليعمل مدرسا بمدرسة البوليس، يتحدث عنه راؤول كورييل «شقيق هنري» محاولا أن يصوغ كلماته بحنان شديد ومحبة لم تمحها الأيام قائلا «عندما تعارفنا كان في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان أكبر منا سنا وأكثر منا خبرة، وأكثر فهما لما يجب أن نعمل، طويلا، ممشوقا وشعره الكستنائي يجعل منه فتي أحلام الكثير من الفتيات، خاصة بسبب حيويته الدافقة وجاذبيته وتعامله الودود مع الجميع، وكان يقيم في بنسيون متواضع إلي جوار صديقة حميمة له هي مارجريت فوبيو وهي فرنسية تعمل كمدرسة، ومعها ومع عدد من الأصدقاء المصريين بدأ في تكوين «حلقة نضالية» تدعو للغوص وسط المصريين وإلي تمصير أفكارنا النظرية الغامضة وإلي تحويل الجدل الفكري إلي نشاط عملي فاعل»، ويمضي راؤول «عن طريقي تعرف بوانتيه بأخي هنري الذي كان يشعر في هذه الأيام بقرف شديد من عدد من الماركسيين الذين تجمعوا معنا والذين كانوا يتصورون أنه يتعين علينا أن نحفظ الكتب النظرية من رأس المال إلي بقية الكتب التي كتبها ماركس وانجلز ولينين عن ظهر قلب قبل أن نخطو أي خطوة عملية. وبالنسبة لي أعتقد جازما أن بوانتيه هو الذي جعل من هنري كورييل شيوعيا، ولم ينس هنري ذلك أبدا وعندما كنا نتذكره في أواخر أيامنا كان يتحدث عنه بتأثر شديد، وحين أقام هنري في فرنسا بشكل سري في عام 1951 اتخذ لنفسه اسما سريا هو «بوانتيه» ولاء ووفاء لذكري أستاذه» ونمضي مع حوار راؤول «كنا في حيرة من أمرنا نحن نسمي أنفسنا «شيوعيين» ولكن لا يوجد حزب، وذات يوم وفي جلسة صاخبة صاح ريمون أجيون: ليس أمامنا سوي خيار من اثنين إما أن نقبل النظام القائم ونعمل في إطاره وهناك أمامنا الثروة والثراء وإما أن نصبح ثوريين بحق»، واتخذ بوانتيه وهنري كورييل قرارهما.. سنكون ثوريين «لكن بوانتيه والذي كان يبدو أهمنا بخبرته الأكثر وثوريته الحازمة فوجئ معنا بقرار ستالين بالاتفاق مع ألمانيا الهتلرية وتوقيع ستالين هذا الاتفاق مع روبنتروب» انقسمت المجموعة.. ونعود إلي راؤول كورييل «كنت في غاية الحنق والغضب وبدأت في الهجوم علي ستالين بما منح السرور للشبان التروتسكيين، ورفضت التبرير الذي ساقه بشكل مرتب وشبه منطقي فقد قال لنا «لابد أن ندرك جدلية فكر ستالين في التعامل مع هتلر ومع دول أوروبا الأخري، فقد حاول بوضوح وصراحة تكوين حلف بين الاتحاد السوفيتي والدول الأوروبية ضد هتلر وموسيليني، لكن الأوروبيين «انجلتراوفرنسا ومن خلفهما أمريكا» كانوا يحلمون بأن تتوجه طلقات النازي ضد الاتحاد السوفيتي وأن يشبع هتلر شهوته التوسعية باحتلال أراضي الاتحاد السوفيتي. ورفضوا يد ستالين، وكان علي ستالين أن يوقع اتفاقا مع هتلر فتتوجه نيران هتلر نحو باريس ولندن ويكسب هو بعضا من الوقت لإعداد جيشه، وكان صوته يعلو أمام استهزاء أغلبية الجالسين، مؤكدا : هي مجرد مهلة قصيرة ومؤقتة وعلينا أن نستعد للحرب مع النازي من الآن، ولم يقف مع بوانتيه إلا هنري كورييل» ويمضي راؤول «أما أنا فلم أقتنع وصرت أهاجم ستالين صراحة وتشاجرت مع هنري عندما رفعت صورة ستالين وقلت له خذ هذه وضعها فوق سريرك، أما أنا فلا حاجة لي بها». وفيما كان الكثيرون منهمكين في الهجوم علي ستالين، وقليلون جدا علي رأسهم هنري كورييل يقبلون بأفكار جورج بوانتيه قرر هو أن يلقن الجميع درسا، فالتوقيع علي الاتفاق المؤقت بين ستالين وروبنتروب لا يعني عدم محاربة النازي حيثما وجد ورتب أمره وفاجأ الجميع أنه مسافر إلي فرنسا لينضم إلي الجيش الفرنسي الذي أوشك النازي علي اجتياحه. قليلون هم الذين صدقوا، وأقل منهم الذين ذهبوا لوداعه، منح بوانتيه صديقته مارجريت فويبو قبلة حارة وقال لها بصوت مسموع «أعدك يا حبيبتي الجميلة أن نتزوج يوم النصر» ثم عانق هنري كورييل عناقا طويلا جدا وهمس في أذنه « أعرف أنني سأموت فأبلغ رفاقي تحياتي»، صعد بوانتيه إلي القطار، وفيما القطار يتحرك وأيدي المودعين له تلوح.. وقف علي باب القطار هاتفا «سوف ننتصر، حتما ستنتصر الشيوعية علي النازية». وفي معركة دنكرت في أغسطس 1944 في جنوبفرنسا قتل بوانتيه مرتديا زي الجيش الفرنسي، لكن عينيه اتجهتا نحو رفاقه في مصر. وفيما أغادر راؤول العجوز قال لي «لقد ذكرتني بالجرح، نحن كنا نصرخ بالشعارات الشديدة الثورية، وهو كان هادئا ووديعا ومتعقلا، ها أنذا في الثمانين أعيش هادئا وهو رحل بكبرياء، ليعلمنا أن الثورية فعل، وليست مجرد أقوال».