هل الحركات الدينية المتطرفة قادرة علي توجيه حركة التاريخ؟ وهل يمكنها العبث بالتراث الحضاري والثقافي والإبداعي؟ وهل تستطيع تلك التيارات الأصولية أن تقود دولة عريقة بحجم مصر نحو الهاوية؟ ترددت تلك الأسئلة وغيرها عقب التصريحات المستفزة لعدد من رموز الإخوان المسلمين والسلفيين ومنها علي سبيل المثال لا الحصر: أن السينما ليس لها هدف- الديمقراطية كفر- سنطبق الحدود عندما نتملك الأرض- لقد انتهي إلي الأبد فصل الدين عن الدولة- الإخواني لا يتزوج إلا إخوانية- وإن أدب نجيب محفوظ يحض علي الرذيلة، ويدور حول الدعارة والمخدرات، وتحمل بعض رواياته فلسفة إلحادية!- فضلا عن ضرورة تحجيب التماثيل والنساء أيضا، ناهيك عن السياحة الحلال وغيرها من التصريحات النارية التي تهدف إلي إرجاع عقارب الزمن نحو الخلف بسرعة الصاروخ!! كل هذه الأسئلة نطرحها في هذا التحقيق عقب تقدم حزبي الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، والنور السلفي في المرحلة الأولي من انتخابات مجلس الشعب الجارية في البداية أكد المخرج الكبير توفيق صالح: أن صعود التيار الإسلامي بات حقيقة للأسف، وعلينا مواجهتها والتصدي لها بكل السبل، لأن تلك التيارات الظلامية تهدد التراث الثقافي المصري برمته، وسوف تعرقل كل الفنون، وكان يجب علي السينمائيين أن يهتموا بتناول هذا التيار وتجسيد آرائه وفلسفته عن قرب علي الشاشة، لأن الأفلام التي تعرضت لتلك الشريحة كانت مفتعلة وليست مقنعة. وأري أن تلك الشعارات التي تبنوها خلال فترة الانتخابات، يمكنها أن تصيب الدولة المدنية في مقتل، فلا يجوز بحال من الأحوال الاعتداء مثلا علي الحضارة الفرعونية أو تحطيم التماثيل، لأن الشعب المصري عظيم ولن يقبل ذلك، فمصر كانت ولا تزال قلعة الحضارة والثقافة والإبداع، لذا لا يجب أن نسمح لهؤلاء بالعبث في تراثنا الثقافي والفكري. أؤكد أن في مصر من المثقفين ومن اليساريين والمبدعين القادرين علي دحض تلك الشعارات المضللة والتصدي لها بقوة، وسننتصر في نهاية المعركة لو نجح اليسار المصري وتوافق مع كل التيارات المستنيرة، شريطة أن ينحي الجميع مصالحهم الشخصية دفاعا عن مصلحة الوطن الأكبر. رأس الحضارات الناقد السينمائي رفيق الصبان قال: أنا ليبرالي اؤمن بالديمقراطية، لذا أنا مع منحهم فرصة طالما هذه هي إرادة الجماهير التي صوتت لهم في صناديق الاقتراع، لكني علي يقين من أنهم لن يستطيعوا إعادة مصر إلي الوراء في ظل التقدم المذهل الذي يشهده العالم الآن. فمن الغباء أن يعملوا علي الحد من الحريات، أو أن يضعوا مزيدا من الرقابة علي الإبداع والفنون، فإذا كان لديهم قليل من الحكمة أو بعد النظر فسوف يدركون أن الاستئثار بالحكم لم يجن أي ثمار طيبة. خاصة أن هذا التعصب سيؤدي إلي مزيد من التخلف والجهل، ولا يجوز أن يحاربوا الفنون بل يجب أن ندع كل الزهور تتفتح، اتهموا في السابق أدب إحسان عبد القدوس بالانحلال والآن يهاجمون أديب نوبل نجيب محفوظ ويعتبرون أعماله تحض علي الرذيلة، وذلك في تقديري ضيق أفق، ويجب أن يتعلموا احترام الآراء المغايرة لهم، فمثلا عندما صدر كتاب د.عبد الرحمن بدوي "تاريخ الإلحاد في الإسلام" حيث كانت هناك تيارات تنادي بالإلحاد آنذاك، وكان لها مطلق الحرية في التعبير عن آرائها، وكان يناقشها الفقهاء والعلماء حينذاك ولا يجوز بحال من الأحوال أن نحيا الآن في القرن الخامس عشر بل يجب أن نواكب التطور. يتفق الصبان مع المخرج توفيق صالح في ضرورة تكاتف كل الحكماء والعقلاء للتصدي لتلك الشعارات المغرضة، مشيرا إلي أن الإسلام كان رأس الحضارات علي مدي التاريخ، وكان الحصن الحامي لمختلف الحضارات في العالم، ودافع الاسلام عن الأعمال الأدبية العظيمة في اليونان، ودافع عن حرية الفكر والعقيدة، ولدينا كوكبة من العلماء أمثال ابن رشد والرازي وابن حزم الذين وضعوا أسس الحضارة الإسلامية، لذا علينا الابتعاد عن صغار المشايخ الذين يضعوا عصابات سوداء علي أعينهم تمنعهم من رؤية النور. المساحة التنويرية المفكر الدكتور عاطف العراقي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة يقول إن الإسلام دين عظيم إذا تم فهمه فهما معتدلا كما هو الحال في تركيا، أما أن يفهم فهما بدائيا بدويا بتروليا فهذا هو الخطر بعينه، لأن مصر تقدمت بفضل التنوير الذي بدأ مع رفاعة الطهطاوي ثم الشيخ محمد عبده، وطه حسين، وزكي نجيب محمود، والشعوب العربية بطبيعتها متدينة متأثرة برجال الدين المعتدلين وعلي رأسهم الشيخ محمد عبده. وما يشهده الواقع المصري الآن من صعود للسلفيين يعد بمثابة ردة وعودة إلي الوراء، لأنهم يفهمون الإسلام فهما خاطئا، وأقول رغما عنهم ستظل الرموز الثقافية باقية شامخة وخالدة للأبد، إنما دعاة التخلف مصيرهم إلي زوال، لأنهم علي مر الزمن البعيد والقريب لم يكفوا عن توجيه الاتهامات إلي العديد من الرموز، ولم تسفر تلك الحملات عن أي اهتزاز لرموزنا الثقافية، لأن الكلام ضدهم أشبه بالدخان في الهواء، وكلنا نذكر تقديم عميد الأدب العربي طه حسين إلي المحاكمة، فضلا عن محاولة قتل نجيب محفوظ، وسيظل العطاء الثقافي والفكري والأدبي مصدرا للإشعاع والتنوير.. في تصوري انه لا يمكن مواجهة تلك الأفكار والتيارات المتطرفة، إلا بأن تزداد المساحة التنويرية والعلمية، خاصة أن التنوير يطرد الظلام والجهل من العقول. التكوين الاجتماعي قالت الفنانة نادية لطفي أنا مع إرادة الشعب أيا ما كانت، فهو الذي أتي بالإسلاميين، وعلينا ألا نستبق الأحداث، وستثبت التجربة فشل أو نجاح ذلك التيار، وفي كل الأحوال لا يمكن لأحد الاعتداء علي الفن أو الإبداع ، فالسينما علي سبيل المثال تعد من متطلبات الحياة مثلها مثل المأكل والمشرب فهي جزء من التكوين الاجتماعي، قالت ضاحكة "الجدع يلغي السينما" فالشعب المصري العظيم لن يسمح لأحد بالاعتداء علي تراثه السينمائي، كذلك الشعر والمسرح والأدب كلها عناصر أساسية في نسيج الحياة المصرية لا يمكن المساس بها. وتؤكد انه لا خلاف علي الفنون الراقية، أما الأعمال المبتذلة فالجميع يرفضها شكلا ومضمونا. إعمال العقل أكد المفكر المصري وأستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة الدكتور عبد المنعم تليمة أن حكم الفرد المستبد المطلق، والجماعات اليمينية المحافظة وفي صدارتها الجماعات الدينية، تنتهج في المجال الثقافي بعامة منهج التحريم والتجريم والتقسيم والمحاصرة والمصادرة، لكن الإبداع الجمالي في الفن والأدب له مسالكه كي ينجو نسبيا من هذا المناخ المعتم، فالمبدع لديه من الأدوات والرموز والتشكيلات الجمالية، ما يجعله يواجه التلقي المتخلف والتفسير الضيق المغرض. وأري أن خطر الحكم المطلق والجماعات الرجعية يتجه نحو ميادين النشاطات الثقافية التي تتخذ أدوات أساسها إعمال العقل، وحرية التفسير والتأويل والاجتهاد والبحث، وذلك في الهياكل والمؤسسات التعليمية والإعلامية والجامعات ومراكز البحث العلمي، وفي إبداعات الآحاد من العلماء والمفكرين. واختتم تليمة قائلا: أنا علي يقين من أن مصر الآن وفي المستقبل لن ينفرد بإدارة شئونها تيار واحد، خاصة أن بلادنا جاهزة بعد ثورة 25يناير لقيادة جبهة عريضة مؤلفة من القوي السياسية والفكرية الأساسية في المجتمع.