"اليوم، فكرة الدفاع عن حقوق الإنسان هي القاعدة التي يجتمع عليها في العالم كله أناس من قناعات وأديان وجنسيات مختلفة". في القرن 16 أنشأ امبراطور الهند ،جلال الدين أكبر، دينا جديدا سمّاه " الدين الإلهي" الذي كان سانتاز ( = خلاصة) من أفضل ما في الإسلام والمسيحية والهندوسية من مبادئ وممارسات أخلاقية، لتحقيق التعايش السلمي بين معتنقي الأديان الثلاثة. وقد نجح في ذلك. لكن دينه مات بموت مؤسسه. فلم تكن الذهنيات، التي صاغتها الخصوصيات الدينية، قد نضجت لاستقبال دين كوني يتعالي عليها. هيأت فلسفة الأنوار بقيمها العقلانية الكونية، أي التي يسلّم بشرعيتها كل عقل سليم حيثما كان، الذهنيات الأوربية لاستقبال قيم حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة الفرنسية في "إعلان حقوق الإنسان و المواطن" (1789). لأول مرة في التاريخ البشري تعترف وثيقة رسمية للفرد بحقوق غير مسبوقة في مواجهة المجتمع و الدولة اللذين كانا علي مر العصور يذوّبانه فيهما. تصدّي أعداء الثورة، من ممثلي المجتمع الإقطاعي و الكنيسة، مثل "ج.دو ميستر" في فرنسا و " بورك " في انجلترا ، لفكرة " الكونية" في حقوق الإنسان. عندهما لا وجود لإنسان كوني. لا يوجد إلا أناس يتميزون عن بعضهم بعضا ب"الانتماء إلي دين ووطن"( دو ميستر). في القرن العشرين نضجت بعض الذهنيات حتي خارج أوروبا لاستقبال فكرة حقوق كونية لإنسان كوني لا يري تناقضا بين انتمائه لدين ووطن مخصوصين و انتمائه لعقل كوني و بشرية كونية. دين علماني في هذا المناخ الثقافي، وكردّ ناجع علي الهذيان العنصري المسكون بوسواس الخصوصية التي جردت الإنسان من كل بعد كوني مختزلة إياه الي خصوصية عرقية، كما فعلت النازية، أو إلي خصوصية دينية كما فعلت النرجسية الدينية، أعلنت الأممالمتحدة في 1948 " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " الذي دشن ميلاد دين علماني عالمي جديد هو " دين حقوق الإنسان". 30 مادة، أي أقل من صفحتين متوسطتين ، أسست دينا جدّد و لا يزال يجدد كل يوم أكثر، بفضل ثورة الاتصالات، ذهنيات البشرية في القارات الخمس. جمعيات حقوق الإنسان حاضرة تقريبا في كل بلد للدفاع عنه ، و مجتمع مدني عالمي يسهر علي صيانته وتعميمه و غلغلته في الوعي الجمعي البشري لتطهيره من قسوة الإنسان علي الإنسان المبرمجة في فصوص أدمغتنا منذ 2.5 مليون سنة. دين حقوق الإنسان يعترف بجميع الأديان التوحيدية (44 % من سكان العالم) و الوثنية (56% من سكان العالم) مدافعا عن حق معتنقيها في الحريات الدينية و متصديا لكل اضطهاد لهم. اليوم دين حقوق الإنسان هو الملاذ الذي تلوذ به الأديان جميعا ضد عدوان بعضها علي بعض. مثلا الشيعة في الدول السنية يستنجدون به ضد اضطهاد السنة لهم والسنة في ايران يستنجدون به ضد عدوان الشيعة عليهم، فضلا عن المؤمنين بالأديان الوثنية أو الإسلامية المنشقة، الذين لا تعترف لهم الشريعة بالحق في الوجود في أرض الإسلام حتي كأهل ذمة! دين حقوق الإنسان ليس دينا بين الأديان الأخري بل يختلف عنها جوهريا. الأديان الأخري تحدد علاقة الإنسان بالمقدس، أما دين حقوق الإنسان فيحدد علاقة الإنسان بالدنيوي، بالإنسان و مؤسساته. الأديان الأخري تعِد الإنسان بخلاص روحه بعد الموت،أما دين حقوق الإنسان فيعمل علي خلاص جسده و صيانة حقوقه هنا والآن. الأديان قائمة علي ممارسة شعائر و شرائع قاسية وغالبا وحشية ، كتقديم الأطفال قربانا في بعض الأديان الوثنية أو دفن الزوجة حية مع زوجها في الهندوسية، أو ختان الذكور في اليهودية و الذكور و الإناث في الإسلام فضلا عن العقوبات البدنية الدموية... يشخّص علم نفس الأعماق هذه الشعائر بأنها عُصاب جماعي، أما دين حقوق الإنسان فلا يفرض الشعائر أصلا أو شرائع - كالشرائع الدينية- المنتهكة لحقوق الإنسان. كل ما ينادي به هو ضرورة احترام قيم إنسانية مشتركة بين البشر لجعل حياتهم أقل شقاء. المساواة الحقة الأديان تفرض علي المؤمنين بها أداء "حقوق الله" أي القيام بالفرائض الدينية و تطبيق العقوبات البدنية، أما دين حقوق الإنسان فلا يفرض علي الإنسان و المؤسسات إلا احترام حقوق الإنسان التي من دونها لا يكون حقا إنسانا. الأديان جميعا تقريبا تفرض عدم المساواة بين الرجال والنساء و بين المؤمنين و غير المؤمنين. أما دين حقوق الإنسان فيطالب بالمساواة بين الرجل و المرأة والمؤمن و غير المؤمن في الحقوق و الكرامة. الأديان -عدا البوذية- تحرِّم علي معتنقيها اعتناق دين آخر تحت طائلة عقوبات دموية كعقاب الردة في اليهودية و الإسلام، أما دين حقوق الإنسان فيرحب باعتناق المؤمنين به لأي دين أو فلسفة شاؤوا، فهو الدين الوحيد غير المصاب بالنرجسية الدينية؛الأديان الأخري تستمد شرعيتها من العقل الالهي سواء كان الله أو الآلهة المعصومين من الخطأ، أما دين حقوق الإنسان فيستمد شرعيته من العقل البشري ، غير الكامل لكن القابل لكمال لا يكتمل أبدا ، و الخطّاء لكنه يحاول باستمرار تصحيح أخطائه و تحسين أدائه ونقد ذاته. فما هي حقوق الإنسان التي يوصي دين حقوق الإنسان باحترامها و مازال أقصي اليمين العنصري في الغرب و أقصي اليمين الإسلامي في الشرق يحاربانها؟ الكرامة البشرية هي الحقوق التي اعترفت بها الحداثة، ممثلة في الفلسفة الإنسانية التي اعتبرت الكرامة البشرية قيمة القيم و فلسفة الأنوار التي حققت انتصار العقل البشري علي العقل الإلهي و العلم علي الأسطورة؛ لكل إنسان بما هو إنسان، بصرف النظر عن جنسه و جنسيته ولونه ولغته و دينه، الحق في الحياة الذي أدي أخيرا إلي إلغاء عقوبة الإعدام في أوروبا و بعض الدول المتحضرة مثل تركيا الإسلامية، الحق في المساواة في الحقوق و الكرامة لجميع البشر دون استثناء، الحق في السلامة الجسدية ضد العقوبات المشوِّهة للجسد و المنافية للكرامة البشرية مثل الجلد و قطع اليد أو قطع اليد و الرجل من خلاف والرجم و دق العنق و العقوبات التعزيرية التي لا تقل عنها قسوة، الحق في الحرية المسؤولة ، أي التي تعترف بحرية الآخر كخط أحمر. هذه الحرية هي في الواقع مجموعة من الحريات كحرية التعبير و التفكير و الاعتقاد فضلا عن الحقوق المدنية و السياسية: اعترف دين حقوق الإنسان للإنسان بحقوق اجتماعية و اقتصادية أساسية كالحق في العمل و السكن اللائق و الأجر الكريم و الإجازات المدفوعة الأجر و العلاج المجاني أو شبه المجاني. كما اعترف دين حقوق الإنسان بحق الفرد في تقرير مصيره في حياته اليومية و اعترف أيضا بحق كل شعب في تقرير مصيره و حكم نفسه بنفسه. حقوق الإنسان مكفولة لكل إنسان بشرط وحيد: عدم انتهاك حقوق الآخر. و هي حقوق كونية أي صالحة لحماية الحقوق الأساسية لكل فرد حيث كان أو مجموعة بشرية حيث كانت. يواجه دين حقوق الإنسان مقاومة سياسية في بعض البلدان التي لم تنتقل الي الديمقراطية الكونية بعد. لكنه يواجه في أرض الإسلام مقاومة دينية سلاحها التكفير لتنفير المؤمنين منه، لكنها مقاومة يائسة. يشهد علي ذلك أن أحد قادة أقصي اليمين الإسلامي مثل حسن الترابي نسخ الآية التي تحرّم علي المسلمة الزواج ممن تحب إذا كان غير مسلم ، معترفا لها بالحق في الزواج من اليهودي و المسيحي و الوثني، و نسخ آية التفاوت في الشهادة والميراث بين الذكر و الأنثي معترفا للمرأة بالمساواة في الشهادة و الإرث، كما يشهد علي ذلك إلغاء الحكومة الإسلامية التركية في الدستور لعقوبة الزنا و الإعدام والاعتراف للمسلم بالحق في تغيير دينه... نسْخُ العقل البشري لأحكام العقل الإلهي ليس غريبا عن ممارسات المسلمين منذ صدر الإسلام. كان الصحابة كلما نزلت آية رأوا أنها مضرة بمصالحهم تنادوا:" لنذهب إلي رسول الله عسي أن يغيرها لنا كما غير آيات قبلها" (تفسيرابن كثير، الآية 206، البقرة: "وما ننسخ من آية أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها" ). الحلال والحرام أكد البخاري:" نزل القرآن بطلب من الصحابة". و كان عليه أن يضيف: و نسخ أيضاً بطلب منهم. واصل الصحابة النسخ بعد النبي، فنسخ أبو بكر حق المؤلفة قلوبهم في الزكاة( الطبري الآية 60، التوبة)، ونسخ عمر وعلي ومعاذ آية الغنيمة ( 41، الأنفال، انظر الخراج لأبي يوسف ص 18). ونسخ الفقهاء...و نسخ الطاهر الحداد و نسخ الترابي ونسخ التاريخ والعلم عشرات الآيات و الأحاديث. الآيات كانت ولا زالت منذ نزول القرآن إلي اليوم مرشحة للنسخ كلما اقتضت المصلحة ذلك، والمصلحة تقتضي اليوم نسخ كل ما يتعارض مع حقوق الإنسان من نصوص و أحكام تقادمت. عدوان لدين حقوق الإنسان العقلاني العالمي: أقصي اليمين العنصري في الغرب و أقصي اليمين الإسلامي في أرض الإسلام. لماذا؟ لأنها تتنافي مع النرجسية العرقية عند العنصريين و مع النرجسية الدينية عند الإسلاميين. منذ انتخابات23 أكتوبر، انتقلت تونس إلي الحكومة الإسلامية، حكومة حركة النهضة التي يعادي رئيسها، راشد الغنوشي، الديمقراطية و حقوق الإنسان .لأن الأولي منافية للشوري و الثانية منافية ل"حقوق الله"علي عباده. كتب بهذا الصدد:" لقد تشكلت أجهزة التلقي في أمتنا علي نحو يجعلها لا تستجيب إلا لنداء العلماء الذين تثق في دينهم و يخاطبونها باللغة التي تفهمها، لغة قال الله وقال الرسول، لغة الحلال و الحرام(...) و الجنة والنار(الفصلية الإسلامية "مرايا" خريف 2002 باريس). أما حقوق الإنسان فلا مكان لها في تراث المسلمين وأجهزة تلقيهم و منظومة قيمهم الدينية إذ أنها "دين بشري" علي حد تعبيره يتنافي مع الدين الإلهي. فهي منذ بدايتها مشوبة "بشوائب بيئتها الغربية التي نبتت فيها(...) و المتأثرة و لا شك بما في البيئة الغربية من إرث ديني مسيحي و بما فيها خاصة من مذهب طبيعي (= إلحادي) و مزاج ليبرالي علماني لا يني يكافح من أجل نزع القداسة عن كل نشاط مجتمعي و حتي فردي إذا أمكن مما جعل حرية الفرد هي الأصل(...) و هو (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) لا يعبر عن كثير من الثقافات التي تجعل مكانا أعظم للمصلحة الجماعية أو تفسح مكانا لرقابة عليا علي ضمير الفرد و علي ضمير المشرع و علي سلطان الدولة مثل الرقابة الإلهية عبر الوحي و علي إعلاء قيم الشريعة فوق كل سلطان وتنصيب عصر النبوة و الخلافة الراشدة مثلا يقاس عليه كل حكم و هو ما جعل الثورة ممكنة والسيف ضد المستبدين أبدا مشرعا" ( " مرايا" خريف 2002)." الخطاب الديني في المساجد لم يعد يتكلم منذ شهور إلا لغة الحلال و الحرام و الجنة و النار...انضاف إليه الخطاب الإعلامي في مواقع الفايسبوك الشهيرة في تونس و التي اشتراها أقصي اليمين الإسلامي بأربعمئة ألف دولاركما يقال، و قد ينضاف إليها التعليم. أما حقوق الإنسان فلا مكان لها في تراث المسلمين لأنها مزيج من المسيحية و الإلحاد و الليبرالية و العلمانية التي تجعل "حرية الفرد هي الأصل" ،عكسا للثقافة الإسلامية التي تجعل مصلحة الجماعة هي الأصل و تضع ضمير الفرد تحت الرقابة الإلهية، و تُعْلي قيم الشريعة فوق كل سلطان، و تنصب الخلافة الراشدة مثلا أعلي يقاس عليه كل حكم لامتحان مدي انتمائه للإسلام! فهل ستنتقل حكومة الفقهاء، العاملة علي "إعادة الخلافة و التطبيق الكامل للشريعة"،( الغنوشي)، من كابوس إلي واقع في تونس؟ فائدة: الإقبال علي الانتخابات كان ضعيفا. نشرتُ في رسالة سابقة نقلا عن شاهد عيان أن نسبة المقترعين كانت 76%، لكن الإحصاء الرسمي النهائي أكد أن نسبتهم كانت 45% فقط، فكما كان الإقبال علي التسجيل ضعيفا كان الإقبال علي الاقتراع ضعيفا هو الآخر. ال55% لم يقترعوا احتجاجا علي الانفلات الأمني، وضد التدمير المنظم للممتلكات الخاصة و العامة ، و ضد الإضرابات و الاعتصامات و قطع الطرق لمنع العربات من دخول المدن و غيرها من أعمال التخريب التي زادت جيش العاطلين من نصف مليون في أول العام إلي مليون في آخره. باختصار، ضد تخريب أقصي اليمين الإسلامي وحلفائه الموضوعيين، من أقصي اليسار الطفولي، للكثير من منجزات الحداثة التونسية طوال 55 عاما!