هكذا تحدث التيجاني الطيب كما هي عادته دائما، فاجأني التيجاني الطيب برحيله، كما اعتاد أن يفاجئني بمقدمه إلي مكتبي في الصحيفة والحزب. كنسيم الصبح في يوم ربيعي صحو، يهل عليك التيجاني بطلته البهية ورشاقته المعهودة، تسبقه ابتسامته الرائقة الحنون ويسألك بحياء وصوت خافت: أدخل أم أنصرف؟! وحين يدخل، يأتي معه التفاؤل من كل حدب وصوب، تفاؤل لا ينضب بقدرة الشعب السوداني علي هزيمة أنظمة الحكم المستبدة المسيطرة مهما طال بقاؤها، كنت اسميه من فرط تفاؤله «بالمتفائل التاريخي» وكنت أجادله قائلة : أخشي أن يكون هذا التفاؤل هو حيلة للتعمية علي واقع بالغ القسوة شديد القبح، لكنني أدركت عبر الاقتراب من شخصيته. أن التفاؤل هو سلاح للقابضين علي الجمر، وللثابتين علي المبدأ، وللساعين بإصرار لا تفتر همته، علي تغيير العالم، واقتناص حقوق شعوبهم في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية من قلب براثنه. قدم «التيجاني الطيب » نموذجا للشيوعي المثالي، حين تطابقت تماما أفكاره مع سلوكه الشخصي الذي تألق بالزهد والتجرد والاستقامة والترفع والتواضع والرضا، رضاء المستغني إلا عن أشواق لا حدود لها بنهضة وطنه وتقدمه. كتبت مرة في مجلة «اليسار» مقالا وصفت فيه الأزمة السودانية بأنها صراع بين ضعفين، وأزمة حكم وأزمة معارضة، فأغضبته المقالة، وكتب ردا عليها شديد اللطف والتهذيب، كان جوهره أن فترة الحكم الديمقراطي شابها كثير من الأخطاء، لكن الشعب السوداني يتعلم من اخطائه، وأدرك أن عيوب الحكم الديمقراطي، لا تعالج إلا بمزيد من الديمقراطية. وحين سألته يوما ماذا تعلم الحزب الشيوعي السوداني وهو أحد قادته ومؤسسيه من تجربة انقلاب هاشم العطا عام 1971 قال بحسم : تعلمنا أن نقف دائما ضد كل الانقلابات العسكرية، حتي لو كانت يسارية، لأن أي تغيير لا تكون الجماهير طرفا فيه، فإن مآله الفشل لا محالة. تلقي التيجاني الطيب تعليمه الجامعي في مصر، بعد أن فصلته لنشاطه السياسي سلطات الاحتلال البريطاني من الجامعة في السودان، فتعلم في مصر وعمل بها، ثم عاد لمصر ليعيش بها لاجئا بعد انقلاب الانقاذ، لنحو عقدين من الزمان، وربما كان التيجاني يصف نفسه وهو يكتب «أن الإيمان بمبدأ الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني، والإخلاص والعمل وفق مقتضياته من سمات الوطني الأصيل. في أكتوبر عام 1982 قضت علي التيجاتي الطيب محاكم «نميري» العسكرية بالسجن لمدة عشرة أعوام، بعد أن كان نظامه قد أعدم رفاقه من قادة الحزب الشيوعي السوداني التاريخيين قبل هذا التاريخ بنحو عشر سنوات، وفي أثناء المحاكمة، سرد التيجاني الطيب قصة حياته، فقال: ليست هذه أول مرة أواجه فيها القضاء، فأنا مناضل من الصبا الباكر، والفضل في ذلك يعود إلي أبي معلمي الذي كان قائدا الثورة 1924 في شندي، وظل وطنيا غيورا حتي وفاته. كما يعود لجيلنا العظيم جيل الشباب الذي حمل أعباء نهوض الحركة الوطنية والديمقراطية الحديثة، وأنني اعتز بأنني كنت من المبادرين والمنظمين البارزين لأول مظاهرة بعد عام 1924 وهي مظاهرة طلاب المدارس العليا عام 1946. وأعتز بأنني في مصر أديت نصيبي المتواضع في النضال المشترك مع الشعب المصري الشقيق ضد الاستعمار، وحكومات السراي والباشوات، ونلت معه نصيبي المتواضع من الاضطهاد باعتقالي سنة، وقطع دراستي. واعتز بأنني شاركت مع رفاق اعزاء في كل معارك شعبنا من أجل الحرية والتقدم الاجتماعي والديمقراطي، وقمت بدوري المتواضع في بناء الحركة العمالية وتنظيماتها ونقاباتها، والحركة الطلابية، واعتز بأنني في سبيل وطني وشعبي شردت واعتقلت وسجنت ولوحقت، وإنني لم أسع إلي مغنم، ولم أتملق حاكما، ولم اتخلف عن التزاماتي الوطنيةو كما اعتز بأنني مازلت مستعدا لبذل كل تضحية تتطلبها القضية النبيلة التي كرست لها حياتي، قضية حرية الوطن وسيادته تحت راية الديمقراطية والاشتراكية، وأضاف التيجاني : ولست أقول ذلك بأي نزعة فردية، فأنا لا أجد تمام قيمتي وذاتي وهويتي إلا في خضم النضال الذي يقوده شعبنا وقواه الثورية، إلا كمناضل يعبر عن قيم وتطلعات وأهداف ذلك النضال، إلا عبر تاريخ شعبنا ومعاركه الديمقراطية والاجتماعية: إنني جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المجيد، وهذه القيم والتطلعات النبيلة. أن هدف السلطة من تقديمي لهذه المحاكمة ليس شخصي بالدرجة الأولي، وإنما مواصلة مساعيها لمحو التاريخ الذي أمثله والتطلعات التي أعبر عنها ولكن هيهات. وهيهات أن يموت من كان مثل التيجاني الطيب. فالأشجار التي بذرها شوقا إلي العدل والحرية، سوف تثمر اجيالا وأجيال من الحالمين والمتفائلين مثله، بمولد وطن ترفرف علي ربوعه رايات العدل والحرية.