في بداية عملي الصحفي كان «أحمد إسماعيل» أحد النماذج المهمة في الصحافة الثقافية من خلال مقالاته وتحقيقاته وحواراته التي أثارت حراكا حقيقيا في الواقع الثقافي المصري. كانت مقالاته - والتي حصل من خلالها علي أكثر من جائزة للتفوق من نقابة الصحفيين - تمتاز بدقة المعلومات وسلاسة اللغة وتأنقها وعمق القضايا التي تطرحها، فقد كان «أحمد إسماعيل» ممن دخلوا الصحافة من باب الأدب - رغم أنه خريج صحافة وإعلام - وقد منحه حبه للفن التشكيلي القدرة علي تشكيل الرؤية، ومنحه حبه للشعر القدرة علي إحكام الصياغة، ومنحه حبه للحياة القدرة علي سبر أغوارها عبر الكتابة. أتذكر - الآن - كثيرا من الصباحات الجميلة التي جمعتنا وهو يسألني عن آخر الكتب التي قرأتها وأعجبتني، ثم يطلب مني أن أقرأ له بعض صفحاتها خاصة إذا كانت دواوين شعرية. كان أحمد إسماعيل - دائما - يعيش بروح الشاعر التي سكنت كل كلمة كتبها، رغم أنه لم يكتب في الشعر سوي ديوانين جمعهما - بعد ذلك - في ديوان واحد صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة تحت عنوان «قصائد»، فالشعر بالنسبة له كان «حالة» إنسانية معاشة أكثر منها حالة كتابة، القصيدة بالنسبة له كانت «حياة» مفعمة بالتفاصيل ومتحصنة بالمواجهة لكل ما يسلب الإنسان إنسانيته، حينئذ تكون القصيدة هي الملجأ والملاذ، أو علي حد تعبيره في قصيدة «زيارة» من ديوانه «قصائد بلا أغلفة»: الطرقات الخشنة تدق باب غرفتي وتفتح الأدراج والمكاتبات فأستفيق عاريا ولم أجد ملاءتي لكنني احتميت بالصحيفة الملقاة ولذت بارتعاشتي كان من المؤمنين - دائما - بدور العقل في التغيير في ظل واقع يسوده الفوضي والادعاءات، وفي هذا يقول: هذا زمان تبوح الخيانات فيه بأسمائها/ ثم تفقس أفراخها جهرة/ هاجمتنا الأناشيد/ بين «الغفاري» و«بريخت»/ كنا وحيدين/ والشمس دائرة من نحاس/ وأنت علي الظهر ملقي/ تزخرف وجه الفضاء/ وتكتب للعشب قانونه/ ثم ترسم للأغنياء مقاصل/ وأنا كنت محترقا في قميصي/ أسأل في رهق: ما الذي يفصل الآن.. بين القصيدة واللجنة المركزية؟». ألهذا كان محبا لشعراء الرفض في الشعر العربي الحديث والذين ربطته بهم صداقة عميقة مثل أمل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم، لذا جاءت أشعاره منتمية إلي هذه المدرسة التي لم يفارقها وظل وفيا لها حتي آخر قصائده؟ وهي المدرسة التي تنتمي إلي شعرية الأسئلة الشائكة، والمكاشفة، وربما هذا ما يبدو واضحا في كثير من قصائده ومنها قصيدة «الأنهار تعرف الخيانة» والتي يقول مطلعها: «أفتش عن مدخلات القصيدة وأكتب للنهر مرثية كيف تمضي مياهك بين العظام ويظمي علي شفتيك الشهيد؟! ضاع متن القصيدة وضاعت بلادي التي وهبتك العذاري ويسكنها الله ضاع اسمها في الحدود الجديدة هكذا عاش «أحمد إسماعيل» محبا للحياة رغم قسوتها، مع أنه أدرك مبكرا أن الموت شريعة المقيمين، وأنه مختبئ في كل التفاصيل، رغم الأحلام المتجددة بالصباحات القادمة، وفي هذا يقول في قصيدة «مرثية ليس لهذا أوانها: مختبئا خلف أقلامك البوص والحامل الخشبي فيخلع سجادة ويشق وسادة إنه الموت مستيقظا يستعيد تواريخ ما قبل وحشتنا» أحمد إسماعيل.. الجميلون - دائما - يرحلون مبكرا.