أثبتت ثورة 25 يناير أن الوعي المصري ممثلا في الأجيال الجديدة التي قادت الثورة إلي التغيير مازال جامحا وقويا وقادرا علي الابتكار والوثوب إلي فضاءات متنوعة من الإبداع الإنساني من خلال بحثه العميق داخل الشخصية المصرية التي أعادت اكتشاف - نفسها - مرة أخري، ولعل أهم مكاسبنا في تلك الثورة المباركة والفريدة في التاريخ الإنساني أنها أعادت إلي المصريين ثقتهم بالعمل الجماعي الذي أعاد للحرية صوتها المفقود، وللصباح ابتسامته الغائبة، فالشعب أراد الحياة فاستجاب له القدر، واتته الحرية في ثوب قشيب بعد أن دفع الشعب ثمنها غاليا من دماء الشهداء. مثلما كانت هذه الثورة فريدة من نوعها - حيث جاءت بعيدة عن التنظيم والتحزب والأيديولوجيا - جاءت أيضا فريدة في شكلها، حيث اتسمت بالروح المصرية، وأقصد - هنا - أنه قد غلبت عليها طبيعة الشخصية المصرية فالأسرة المصرية كلها قد شاركت فيها، فكنا نري في «ميدان التحرير» الأب والأم والأبناء ممسكين بعلم مصر، والجميع يحمل شعارات التغيير، الآباء جاءوا بصغارهم كي يشهدوا قدوم الفجر الجديد كي يسجلوا في ذاكرتهم هذا الحدث الذي لا مثيل له، وقد اتسمت الشعارات التي رفعها المتظاهرون بخفة الدم التي تميزت بها الشخصية المصرية علي مر العصور، فإذا كان الشعار الرئيسي الذي تصدر واجهة الميدان هو «الشعب يريد إسقاط النظام»، فإن كل مواطن قد حمل شعارا مختلفا عن الآخر، فهذا شاب ذو شعر كثيف يحمل لافتة كتب عليها «ارحل بقي.. علشان أروح أحلق»، وهذا شيخ عجوز وضع علي فمه ورقة لاصقة كتب عليها «ارحل بقي.. أنا نفسي اتكلم»، وهذان شابان مسيحي ومسلم يمسك أحدهما بيد الآخر يرفعان شعارا كتب عليه «مسلم ومسيحي إيد واحدة»، وهذا طفل صغير يرفع شعارا ظريفا هو «امشي بقي إيدي وجعتني»، وهذا رجل مسن علق ورقة علي صدره كتب عليها «إمشي بقي عايز أنام»، وهذا صبي في السادسة عشرة من عمره يمسك ورقة بها صورة الرئيس مبارك وبجوارها صورة لتليفون محمول وتحتها كتب «لقد نفد رصيدكم»، وشاب آخر يحمل لافتة كتب عليها «لو مش عاجبك جدة يا مان ممكن ترحل ع السودان» وكثير من الشعارات جاءت لترد علي من حاولوا ركوب الموجة مؤكدة أن الثورة هي ثورة الشباب ومنها «لا للبرادعي ولا أحزاب ثورتنا ثورة شباب»، و«ثورتنا ثورة شبابية.. ثورتنا من أجل الحرية»، و«ماتعبناش ماتعبناش.. الحرية مش ببلاش». أما أهالي شهداء الثورة الذين راح أبناؤهم فداء للوطن - في تلك الثورة المباركة - فقد رفعوا لافتات مثل «يا مبارك فينك فينك.. دم الشهدا بينا وبينك» وقد حمل زملاؤهم لافتات مكتوب عليها «الشهيد في الجنة». عناصر شابة ولأن ثورة يناير جاءت كثورة فارقة في تاريخ العالم من حيث تكوينها وطبيعته وتطورها من يوم إلي آخر مما جعلها أبرز ثورات العصر الحديث، لقيامها علي عناصر ما بعد حداثية مثل «الفيسبوك» الذي لعب دور الشرارة الأولي لتجميع الشباب، بالإضافة إلي ذلك حملت الثورة طبيعة الشخصية المصرية المرحة، فتحول ميدان التحرير رغم قوة الهتافات وعمق القضية إلي ما يشبه الاحتفالية بالإنسان وبقيمة الوجود والحق في الحياة، فهؤلاء مجموعات من الشباب أحدهم يمسك عودا والآخر يغني وراءه أغنيات الشيخ إمام عيسي وشادية وصفرعلي ومحمد منير وعلي الحجار وسيد درويش، وكلها أغان في حب مصر تفاعل معها المتظاهرون خاصة أغاني «مصر يا أمة.. يا بهية/ ويا حبيبتي يا مصر» و«اسلمي يا مصر إنني الفدا» و«بلادي بلادي»، في ميدان التحرير تحول الجميع إلي منشدين للوطن، يمتزج صوت بائع البطاطا مع صوت العامل البسيط مع صوت الأستاذ الجامعي مع صوت الممثل مع صوت المذيع الكل يشكل كونشيرتو للحرية، وكانت الدموع تذرف من العيون حين يعلو صوت المنشدين بأغنية الشيخ إمام «إيه يعني مات البدن.. هو الشهيد بيموت»، وقد تفنن العازفون في الميدان في تلحين وغناء الهتافات وأشهرها «الشعب يريد إسقاط النظام» وغيرها. قصائد شعرية وخلال فترة الثورة التي استمرت ثمانية عشرة يوما ظهرت مجموعة من القصائد للشعراء المصريين منها قصيدة للشاعر محمد بغدادي تحت عنوان «ثلاث أغنيات للحب والحرية» ومنها: «الجموع بتشب فوق طرف الأماني/ والحناجر طالعة تهتف بالأغاني/ والعساكر واقفة بتخبي الهتاف/ والخوذات السودة، قدامها الدروع/ والرصاص زي المطر../ والقنابل والدموع/ والمباحث واقفة بتسجل في تقريرها الأغاني/ والهتاف بيصحي قلبك.. اللي نايم من سنين». أما الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي فيستلهم في قصيدته «إرادة الحياة» روح أبوالقاسم الشابي صاحب القصيدة الشهيرة «إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد وأن يستجيب القدر»، ومنها هذا المقطع: «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يسترد شجاعته وينادي جماعته ويسير بأمواجه العاتية إلي الطاغية يطالبه بالمقابل عن كل ما عرفته البلاد من الجوع والقهر في ظله، والهوان أن يعيد الذي مات حيا، ومن خاف يشفيه من خوفه ويعيد إليه الأمان وما سفحته العيون من الدمع يجمع دمعة دمعة، ويرد الزمان إلي حيث كان! أما الشاعر حلمي سالم فيرصد في قصيدته «نشيد اللوتس» بعض المشاهد من ميدان التحرير خاصة التحام فئات الشعب المختلفة: وقد ظهرت مجموعة من القصائد الأخري لعبد الرحمن الابنودي وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وفاروق جويدة وغيرهم كثيرين، ففي قصيدته «الميدان» ينتقد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي ما سماهم «عواجيز السلطة» الذي عاثوا في البلاد فسادا فأتوا علي الأخضر واليابس: «عواجيز شداد.. مسعورين..أكلوا بلدنا أكل. وشبهوا بعضهم.. نهم.. وخسة وشكل . طلع الشباب البديع.. قلبوا خريفها ربيعا.. وحققوا المعجزة.. صحوا القتيل من القتل». أما الشاعر فاروق جويدة فيكتب قصيدته «الأرض قد عادت لنا» علي لسان الفلاح الفصيح قائلا في مطلعها: «يا سيدي الفرعون. هل شاهدت أحزان المدنية/ الناس تصرخ من كهوف الظلم/ والأيام موحشة حزينة/ ومواكب الكهان تنهب في بلاطك والخراب يدق أرجاء السفينة». بالإضافة إلي ذلك كانت هناك مجموعة من الفنانين التشكيليين الشباب جاءوا إلي الميدان كي يرسموا المشهد الذي كان يتحول يوميا في حالة تصاعدية. وهناك أيضا كانت مجموعة من المخرجين الشباب الذين سجلوا بكاميراتهم ما حدث للاستفادة منها مستقبلا في عمل أفلام تسجيلية عن الثورة.