أقام مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام يوم الاثنين 20/12/2010 ورشة عمل تحت إشراف الدكتور عمرو هاشم ربيع وأدارها أستاذنا عبد الغفار شكر حول البحث في إمكانية تطبيق الحوكمة علي الأحزاب السياسية. وقد قصدت ورقة العمل التي قدمت للحاضرين من مختلف الأحزاب المصرية من مصطلح الحوكمة هذا " والذي اعترض عليه كاتب هذه السطور " هو الحكم الرشيد. مكمن اعتراضي باختصار أن ما ينسحب علي الشركات وثقافة الاستثمار من مصطلحات لا ينبغي أن ننقله لقاموسنا السياسي إلا بشروط منهجية تتعلق بمدي قدرة المصطلح علي استيعاب طبيعة العلم الجديد، فمعايير الجودة أو الحوكمة تجوز في السلع والمنتجات، أما في السياسة عموما والحياة الحزبية فلا. القوامة علي الأحزاب ما لفت نظري في تلك الورشة هو تنامي ظاهرة نقد الحياة الحزبية من خارجها.نعم الحياة الحزبية في مصر ملك للجميع وحق أصيل من حقوق المواطن سواء كان مثقفا معنيا بالشأن العام أم كان مواطنا عاديا أن يبدي ملاحظاته العامة أو الخاصة حول دور ووظيفة وجدوي الحياة الحزبية ولكن بشرط أن ترتبط تلك الرؤية برغبة حقيقية في التطوير والتقدم من الداخل وفق تعبير الأحزاب عن قواها الاجتماعية داخل المجتمع.ولكن ما لاحظته أن تلك الورشة - علي الأقل فيما قدمته من ورقة نقاش للحاضرين- كشفت عن طريقة تفكير ممنهجة لخلق نوع جديد من القوامة علي الأحزاب السياسية. تضمنت الورقة التي قدمها منسق الورشة أن هناك من الأسباب والدوافع ما يؤكد استحالة أن تتطور الأحزاب السياسية إلا عبر نظام " الحوكمة " علي غرار ما هو متعارف عليه في تطوير الشركات والمؤسسات الاقتصادية، ومن ثم فالورشة هنا معنية بالمطالبة بإعداد دليل للحوكمة علي الأحزاب السياسية المصرية يسهم في الارتقاء بالأداء الحزبي. وقد قامت الورقة بتعريف الحوكمة بأنها " ثلة القواعد التي تجعل الأحزاب السياسية تتبني قواعد الديمقراطية والشفافية والنزاهة بين أعضائها علي اختلاف وضعهم في المستويات التنظيمية علي تعددها...الخ. " ثم تناولت الورقة بعد ذلك ثلاثة أسئلة طلب من الحضور الذين مثلوا معظم الأحزاب المصرية المهمة الإجابة عنها وهي متعلقة بالبحث في قواعد الحوكمة ونتائجها والصعوبات المعوقة لتطبيقها. وقد دارت المناقشات في معظمها حول نقد الحياة الحزبية والمناخ السياسي العام الذي لا يشجع علي ضعف الأحزاب فحسب بل ويهدد الكثير منها بالانسحاب من الحياة السياسية والانقراض بفعل عوامل النحر ولكن أشد ما لفت انتباهي أن ما شغل القائمين علي إدارة الجلسة هو التركيز علي البحث في طرق تطوير وتعديل مسارات الأحزاب الداخلية بحيث تسمح ببروز الديمقراطية والنزاهة والشفافية في اتخاذ القرارات الحزبية في المستويات المختلفة ، وذلك بالتساؤل المباشر حول هل بالامكان تشكيل لجنة مستقلة ومحايدة من النخبة المستقلة خارج الأحزاب لمراقبة تطبيق الأحزاب لقواعد الحوكمة؟ انطلاقا من كونها أحزابا وكما تقول الورقة " عاجزة عن ممارسة الرقابة والديمقراطية الداخلية وتتصارع قياداتها وتنبذ طموحات كوادرها" إن خطورة هذا التوجه علي ما به من نوايا تبدو مخلصة ذات مقاصد نبيلة في خشيتها علي مسار الحياة الحزبية ، خطورته أنه يخلق قوامة جديدة علي الأحزاب ويضعها تحت رحمة قانون حسبة سياسي وينصب عليها معتمدا ساميا سياسيا مستقلا. وكلمة مستقل هنا من الكلمات التي تصيبني بارتباك شديد حينما اسمعها لأنها في حقيقة الأمر ليست صادقة علي الدوام .لأن مفهوم المستقل أو اللامنتمي - كما يري كولن ولسون - ليس موجودا في الواقع، فلكل منا توجهاته وانتماءاته التي تحجبها أحيانا مصالح ما أو توجسات معينة. إن هذا الطرح الذي خرج من مؤسسة عريقة كالأهرام ومن مركز دراسات محترم نفخر به جميعا ينبئ عن قضية أخري أكثر خطورة وهي الموقف من فكرة " الحزبية " في مصر فحينما أقرأ أو التقي بمفكرين وأكاديميين وباحثين ومثقفين وكثير من المواطنين العاديين لأجد كل هؤلاء أو معظمهم علي اختلاف هوياتهم وثقافاتهم يرفضون فكرة الحزبية ويرجمونها أحيانا بدعاوي عديدة ومختلقة لتبرير عدم استعدادهم للانضواء تحت لواء حزب ما، كنت علي الدوام أقف موقف المدافع عن جدوي وأهمية أن ينضم الناس للأحزاب بغض النظر عن طبيعة الدور الذي قد يلعبه الفرد أو توجهات الحزب الذي ينضم إليه، ومعللاً ذلك بأن الحزبية هي أرقي صور وأشكال النضال أو الكفاح من أجل العمل والصحة والمأكل والمسكن، ومن أجل الحرية والمساواة والحياة الديمقراطية السليمة. إن مجتمعاتنا لن ترقي أو تتطور بدون حياة حزبية حقيقية مهما تعددت صور وأشكال النضالات الاخري. ومن بين أهم نجاحات تلك الحياة الحزبية هي إيجاد التربة المناسبة للأحزاب للنمو الطبيعي والامتداد في شرايين المجتمع المصري.واقصد أن الأفكار الدافعة الي تهميش " الحزبية" هي نتاج لسلسلة من الممارسات الخاطئة من قبل الأنظمة المصرية المتعاقبة في العقود الأخيرة وناجمة بالتالي عن التكوين الفكري والثقافي للنخبة المصرية التي ولدت منذ اللحظات الأولي في أحضان النظام منذ محمد علي والطهطاوي وحتي اليوم باستثناءات نادرة بارزة في التاريخ الحديث أمكن لبعض النخب أن تتخذ مواقفها لصالح القوي الشعبية صاحبة المصلحة الأولي في الوطن. صعوبات الحياة الحزبية وبناء علي ذلك فإن الحياة الحزبية المصرية تواجه صعوبات كبيرة فابتعاد الناس عنها يزداد يوما بعد يوم وانخراطهم في كيانات مستقلة أو شبه مستقلة تحقق لهم ذواتهم، بات بالنسبة لهم أفضل كثيراً من الانضمام للأحزاب، إن هذه الزيادة المطردة في مجافاة الحزبية يقودها ما يطلق عليهم " مثقفون مستقلون" لهي من أخطر ما يواجه الأحزاب الآن، مجافاة مصحوبة بالاستعلاء علي الحزبية واعتبار هؤلاء الحزبيين أصحاب برامج وأفكار ونوايا وتوجهات لا تريد كل الخير إلا لنفسها علي حساب مصلحة الوطن، فحينما سئل أحد الحاضرين في ورشة العمل عن تعريف نفسه وحزبه قبل بدء مداخلته ذكر أنه حزب مصر أي فوق الأحزاب. إن هذه الثقافة التي تتمدد داخل جسد النخبة المصرية هي الوجه الآخر للسياسات الأمنية التي يقودها الحكم الحالي في تهجير القوي الاجتماعية عن أحزابها المعبرة عنها، وهي الوجه الثالث لقوي الإسلام السياسي والسلفية التي تتعمد تجريف الحياة الحزبية من وطنيتها باعتبارها من عمل الشيطان ونوعا من الخروج عن الإسلام. لقد وقفت الحزبية كمفهوم وتصور وتوجه حقيقي لمواجهة كل صور الاستبداد السياسي مضحية من أجل ذلك بالاعتقال والتشريد والفصل والتنكيل والمضايقات، وقفت منعزلة في مواجهة أوهام المثقفين المستقلين باستقلال مواقفهم وإنكار النظام لحقوق الأحزاب في الفعالية الايجابية وتشكيك قوي التأسلم السياسي في حقيقة الدور النضالي للأحزاب.إن الأحزاب تناضل ليس علي صعيد حقوق المواطنين فحسب ولكنها أيضا تناضل ضد كل صور وأشكال نقضها ومحاولة هدمها كفكرة ومضمون وتوجه وهو نضال أصعب كثيراً من النضال من أجل الحرية والخبز.فمن السهل علي إنسان أن يثبت للآخر أنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة ولكن من الصعب جدا أن يبرهن له علي إنه موجود، لأنه إن لم يكن يري هذا الآخر وجوده أمامه فلا يمكنه إثبات ذلك الوجود.