تظل تونس موقعاً مهما للعقلنة فى العالم العربى، حتى وهى تشهد أقسى التحولات.. وهذا ما امكن لي لمسه خلال زيارة قصيرة لتونس مؤخرا … فديكتاتورية بورقيبة نفسه كانت مغلفة بالتحديث، ولجم الطبقة التقليدية، وحتى "بن على" لم يستطع الا أن يبدو عقلانيا لعامين أو ثلاثة، مبشراً بالتغيير والحوار, ثم ادعاء "مقرطة" الواقع السياسى، حتى انفرد ليجعل الحداثة هى فقط الطريق للضبط الأمنى، والنهب المنظم , وتنمية الطبقة الوسطى لتسكت على ما يجرى…! ثم كانت "الثورة" أو قل "الانتفاضة الشعبية" التى فتحت الباب للفرز الاجتماعي، واكتشاف أن تنظيم المجتمع هم عقلي بقدر ما هو اجتماعى، عند كثير من الفئات الاجتماعية ولذا تلعب الصياغات الفلسفية قدرا واضحا في العمل العام في تونس بما يبعد احيانا عن المدركات الاجتماعية المباشرة التي يجيد اخرون اللعب بها.. . ويمكننا النظر بسرعة إلى الخريطة التى تبرز فاعليتها كل يوم الآن على سطح الحياة السياسية، وسنعود لأثرها فى حركة التفاعل الجارى. الثورة المضادة هناك الآن عدة عناصر واضحة وذات تاريخ فى العملية السياسية: اولها.. الأحزاب السياسية التى تشكل "الترويكا" أى الثلاثية الحاكمة : حزب المؤتمر من اجل الجمهورية- التكتل الديمقراطي – النهضة) ..وفي الساحة او الفضاء السياسي تقف ايضا احزاب :الجمهورى (الاشتراكى سابقاً- التجديد او المسار (الشيوعى سابقاً) .والعمال الشيوعى….. الخ ثمة قوي افرزتها الثورة ثم الثورة المضادة ان جاز التعبير مثل قوة الجبهة الشعبية من جهة وقوة "الدستوريين" التي باتت تعنى حضور دستوريي" بورقيبة"" وبن على" بقوة الآن على السطح كأحزاب "الفلول" بالتعبير المصرى. وإلى جانب هذا الطرف الحزبى السياسى: هناك قوة شديدة التفاعل أيضاً وهى الاتحاد التونسى للشغل، والمنظمات الحقوقية (حقوق الإنسان خاصة). وهي ما يكاد يمثل بيت الحوار الوطني ,لنري الفرق مع وثائق الازهر وغيرها في مصر! ما يلفت النظر هو أن معظم هذه القوى بدت وكأنها لفترة تعتمد على تاريخيتها ,ثقة ورايا.. فباتت كأنها الماضى، مما جعل حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشى وهو المحافظ النهضوي كانه التنظيمى الحداثى وحده ..!. فحضر برلمان أكتوبر 2012 بأغلبية نسبية (اكثرية) وليست مطلقة…. وكان ذلك وقتها" ستر الرب "على شعب تونس! لأنه دفع الإسلاميين هناك إلى ضرورة "التوقف للتفكير" وعقلنة التطور فى كل لحظة رغم إغراء "التمكين" الذى اندفعوا فيه بدورهم مثل الاخوان في مصر … لكن القدرة على التراجع "المعقلن" باتت واضحة… وخاصة حين اندفعت بعض أطراف الأسلمة أو المحافظة لاغتيالات بلعيد والإبراهيمى , ربيع وخريف 2013 .. فبدا "المتمكنون" أشراراً يتوجب على الحركة السياسية كلها.. لمهم…وعندئذ اعتقد ان الاسلاميين ادركوا اهمية" الوطني" في اسبقيته علي الاممي او الدولي تيسيرا لفهم التحالفات وتقدير التنازلات وهذا ما ثبتت جدواه لهم. ملاعبة النقابيين لعب احتكار واحتقان الموقف السياسى والاجتماعى الاقتصادى دوراً فى إظهار أزمة الانفراد الاسلامي بالسلطة، وبدأت التحالفات تهتز كراسيها، حتى جاءت أحداث ثورة يونيو-يوليو 2013 فى مصر، لتساعد فى قلب تصورات "إخوان تونس" عن آفاق الانفراد، وبينما اسموا ما حدث انقلابا في مصر ,فانهم راحوا يبحثون عن دروسه باحداث الانقلاب في تحالفاتهم ازاء ادراكهم للسخط الشعبي تجاههم بنفس القدر..!. فقفز راشد الغنوشى إلى فلسفة ما أسماه البعض "ملاعبة الثعابين" وهو يدرك ان ذلك لا يمكن أن يكون إلا بالاقتراب من "الطبقات القديمة وعناصر الدولة العميقة"….. وكأن هؤلاء قد سبقوه إلى تنظيم صفوفهم فيما سمى فترة "الاتحاد من أجل تونس ثم" نداء تونس "(لاحظ مسميات الفلول في الصراخ باسم مصر…) بقيادة باجي قايد السبسى (البورقيبى الليبرالى القديم ووزيره وبن علي معا )…. وذهب الغنوشى ليعود السبسي المريض فى باريس (أغسطس 2013) وكان ما سمى بلقاء "الشيخين" أى تحالف الجبهات المحافظة تماماً… (سواء كانوا ثعابين أو أمنجية !)….. تمثلت "شطارة" الغنوشى فىلعبة "العقلنة" وشطارة الليبرالى قايد "السبسى" فى ضم بعض ما يعتبر فى تونس وجوها ديمقراطية أو يسارية دولتية ليصبح "نداء تونس" مرشحاً جامعا لقيادة الدولة فى ثوبها الجديد بتحالف المحافظين القدامى والجدد…. ! القطب الحداثى كان لابد من اختبار هذا المكون الجديد… وقوى "الثورة" فى الشارع ويدها على قلبها من هذا التركيب والتفتيت المتسارع نحو استقطاب غير مامون النتائج ….. اصبحت جبهة "الترويكا"تتهاوي مع رئيس يعتبرونه نزقا مثل منصف المرزوفى وحزبه "المؤتمر" أو بمحافظ اخر فىقيادة حزب "التكتل" "بن جعفر"….. من جهة… وأمامها قوة الجبهة الشعبية التى قفزت إلى الأمام بلغتها الحادة بعد مقتل الرموز الوطنية ""…. ويكاد يساند ذلك التطور جبهة يسار تقوى ثانية وتدريجياً حاملة مسميات جديدة من: المسار او القطب الحداثي اليساري إلى الديمقراطى التقدمى إلى آفاق تونس، والوطن الديمقراطيين "الوطد" والناصريين والبعثيين… الخ).ويشير ذلك بوضوح الي اهمية استمرار الحيوية في النبض السياسي حتي لو بدت الفرص اقل لانها ستعود باالضرورة مثل عودتها الان امام ضعف قوة الترويكا التي كانت كاسحة وكان الاختبار متراوحاً… فالضغط الشعبى يريد التأكد من عدم انفراد حزب النهضة- أو قل "الإخوان المسلمين" بعد تجربة مصر – بالسلطة ممثلة فى الحكومة "التى كانت قائمة"حتي يناير 2014 بل والامل في مزيد من اضعافها -حسب التنبؤات المتفائلة- فى انتخابات البرلمان القادم 6-9 شهور! "والغنوشى" من جهة اخري يواصل ملاعبة الثعابين ، ويريد التصدى لآمال البعض في خلع النهضة من تونس على طريقة مصر.. ولذا يسارع بالموافقة علي انقلاب "مدني فعلي بسحب حكومته او ما سمي شعبيا اسقاط حكومة الاخوان والتوافق حول تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة شكلها "المهدى جمعة" بعد لأي في يناير 2014 وبها من الوجوه المثقفة ما يطمئن بالفعل…. وأهميتها فى مقولة العقلنة التونسية، أنها تمثل بالفعل معنى القبول "الحداثى" بالحكومة الانتقالية، التي لاتشارك في العمل السياسي ولا الاعلام له وانما هي آلية محايدة- ولو نسبياً- لإجراء الانتخابات القادمة وحسب .. ولنقارن بالحكومات الانتقالية فى بلاد أخرى مثل لبنان أو مصر لنقدر ما يجرى فى تونس. مادة إقصائية إذن يكاد ينجح الاختبار الأول لمدى "عقلنة" سلوك الفلول والغتوشية في زحفهم علي السلطة والمجتمع معا ويتصدوا عمليا لضغط المعارضة الشعبية عليهم رغم تفتتها جاء الاختبار الثانى كاشفاً أكثر… فثمة مواجهة تحركها "العقلنة المحافظة" مقابل الثورية…. أقصد عقلنة المحافظين لفهم "الواقع " !أو انطلاق عقال التمرد مثلما كاد يحدث بعد اغتيالات صيف 2013! ووقع الاختبار الفعلي خاصا بقانون تنظيم الانتخابات وتحرك التحالف الجديد من المحافظين ضد تمرير المادة168 عن العزل السياسى الذى سيشمل كثيرا من وجوه "نداء تونس" حتى من يساره أحيانا بل وبعض المتعاطفين مع الإسلاميين… الخ.ممن يهددون بغزو البرلمان القادم بعد عدة شهور… وقد تركت تونس و يكاد يكون قد تقرر إسقاط المادة التى أسماها "الغنوشى" نفسه "المادة الإقصائية" وليست مادة العزل ..بعد تسليمه بقوة تحالف النهضة مع اعمدة النظم السابقة في اطار مزعوم للوحدة الوطنية ,ورغم تهديد بانقسام في "النهضة" يثق في معالجته الا ان الجميع في"تحالف الثعابين" يدرك خطورة عملية العزل في تونس (رغم ان قرار احدي المحاكم صدر في مصر حول العزل مؤخرا فاني لا اشعر الا بانه يجري وأده دون اهتمام احد مع انه قانون كاشف تماما للنظام القائم وحوله قتال سياسي ضار في تونس)والجدل فى تونس كثيف، حول تبلور ثورة تونس الرائدة إلى هذا الشكل من التحالفات ، حيث تحتشد القوى "المحافظة" فى تنسيق وتناغم , بينما تنشغل قوى وطنية وديمقراطية بترشيحات الرئاسة او اوضاع القيادات في مناصب المعارضة ! يبقى أمل التميز التونسى، في الرباعية الشعبية المعروفة و الاتحاد التونسى للشغل،و المنظمات الحقوقية لحقوق الإنسان والمرأة…. الخ.. وفي دول التحديث الحقيقية تحتل فيها هذه التنظيمات مكانتها السياسية الديمقراطية المناسبة بمثل انشغالها القانوني تماما على غير ما يتصور بعضهم فى مصر.