إعدام التوربيني! إعدام التوربيني وحناطة في سجن الحضرة بالإسكندرية.. لن يحل مشكلة أطفال الشوارع.. لأن مشكلة أطفال الشوارع هي التي أوجدت التوربيني وحناطة.. ليس إلا! أخيرا.. تم إعدام التوربيني.. وحناطة.. بسجن الحضرة بالإسكندرية.. بعد أن أسدلت ستائر النسيان علي قضية أطفال الشوارع التي شغلت الرأي العام سنة 2006.. وكشفت النقاب عن أربعة ملايين طفل يهيمون في الشوارع.. وتدور حياتهم بين الكر والفر.. وحركة الثعابين التي تتلوي تحت الكباري وفي الأنفاق.. وفوق أسقف القطارات المتجهة نحو الإسكندرية.. حيث كان التوربيني يروح عن نفسه بعد الاعتداءات الجنسية علي ضحاياه من الأطفال.. بإلقائهم من فوق سطح القطار التوربيني.. ولذا ذاعت شهرته بين أطفال الشوارع.. بالتوربيني. في هذه القضية التي تعود وقائعها لسنة 2004 لمعت أسماء القيادات البارزة.. صاحبة الأمر والنهي.. أمثال مؤمن عبدالمنعم وشهرته «الجزار» وأحمد سمير وشهرته «بقو».. وحمادة محمد وشهرته «بزازة»، وشعبان رجب وشهرته «السويسي» إلخ. وعرفنا أيامها أن ممارسات القيادات البارزة لأطفال الشوارع مشحونة بالعديد من الفتيات اللاتي يجري اغتصابهن طوال ساعات الليل.. وحتي انطلاق الأذان لصلاة الفجر.. علاوة علي عشرات القتلي.. الذين يلقي بهم في مواقع لا تصلها عيون المخبرين. وعرفنا أن عدد أطفال الشوارع وصل لأربعة ملايين طفل.. وأن حكامنا يتعاملون مع هذه القضية.. تعاملهم مع القضايا التي جاءوا لحلها فزادوها تعقيدا.. وحولوها لقضايا.. لا تستطيع العفاريت المحبوسة منذ أيام سيدنا سليمان.. حلها. العفاريت تعجز عن حل المشاكل التي ترتبت علي غياب الدورين السياسي والاجتماعي للدولة.. واختزاله في جانب واحد هو الدور الأمني.. وعربات الترحيلات. الشرطة تقبض علي الأطفال.. وتلقي بهم في «التخشيبة».. دون أن يتنبه حكامنا إلي المصدر الرئيسي لأطفال الشوارع.. كالعشوائيات التي يقطن بداخلها 12 مليون مواطن.. لهم رائحة.. أقرب لرائحة الخضراوات التي تروي بمياه الصرف الصحي.. ولا إلي فشل التعيينات العشوائية للمحافظين التي حولت كل محافظات مصر لمناطق طاردة لسكانها.. إلخ. لم يفكر حكامنا في التعامل مع قضية أطفال الشوارع.. علي النمط الذي تعاملوا به مع أسماك القرش التي هاجمت السياح في شرم الشيخ. تعاملوا مع أسماك القرش.. باستدعاء الخبراء الأمريكان.. والبحث عن حلول عاجلة كي لا تتأثر السياحة.. وتلقي سمعتهم المزيد من الهبوط والتدهور.. علما بأن أطفال الشوارع.. يهددون السياحة أكثر مما تهدده أسماك القرش. أسماك القرش تهدد السائح الذي يغوص تحت الماء.. أما أطفال الشوارع فإنهم يهددون السائح فوق سطح الأرض.. سواء بالإلحاح عند التسول.. أو عند مطاردة شرطة السياحة لهم مما يصيب النفس بالكدر والحزن علي ضياع حقوق الإنسان بصفة عامة والطفل بصفة خاصة. وظاهرة أطفال الشوارع لم تبدأ فجأة.. ولم تظهر بين ليلة وضحاها.. وإنما تراكمت طوال ما يزيد علي ربع القرن.. بعد أن تخلي حكامنا عن المشروع القومي الكبير.. لإعادة البناء والتعمير.. وتفرغوا لرحلات الخارج من أجل الداخل. وعندما انتقلت كارثة أطفال الشوارع لعناوين الصحف.. سنة 2004.. وعندما ظهرت جرائم التوربيني وبقو وحناطة واغتصاب الفتيات في سن الطفولة.. إلخ.. تحرك الضمير الوطني.. ولم يكن البعض منهم يتصور وقوع مثل هذه الجرائم الشائنة التي يرتكبها أربعة ملايين طفل يعيشون في الشوارع.. بلا أهل.. ولا محل إقامة.. وبلا أسماء حقيقية. في سنة 2004 كان حكامنا قد أمضوا علي سرير السلطة ما يقرب من ربع القرن.. وكان المتوقع أن تسير سياستنا تجاه الأطفال علي المنهج الذي تسير عليه الدول العربية المجاورة التي لا تعرف ظاهرة الأطفال الذين يلقي بهم المجتمع إلي الشوارع.. ولكن ذلك لم يحدث.. وجاء الحل بإعدام التوربيني وحناطة بعد ستة أعوام قضياها وراء القضبان. مفهوم طبعا.. إن الزيادة السكانية الهائلة والانفجار السكاني كانت وراء ظاهرة أطفال الشوارع.. بيد أنه من المعروف أيضا أن الزيادة السكانية الكبيرة هي مسئولية حكامنا أيضا.. وتعود في جوهرها إلي الفقر المدقع والجهل وتدهور أحوال التعليم والمدارس.. والبطالة.. والفشل في جمع القمامة.. وانتشار الأمية بين الفتيات إلخ. ولذلك نقول إن إعدام التوربيني وحناطه في سجن الحضرة بالإسكندرية منذ أيام.. لن يحل مشكلة أطفال الشوارع.. لسبب بسيط هو أن مشكلة أطفال الشوارع هي التي أوجدت التوربيني وحناطة.. وليس العكس. أريد أن أقول إن التوربيني.. لم يبتدع أطفال الشوارع ويدفعهم للهروب من جحيم العشش التي يولدون بها.. إلي جحيم الشوارع.. وإنما العكس هو الذي حدث.. وهو أن وجود أطفال الشوارع هو الذي جاء بالقيادات الغاشمة التي ارتكبت الموبقات كافة التي لم يكن من المتصور وقوعها في مصر.. أم الرخاء ومنزل الروح الأمين. أطفالنا هم ثروة هذه الأمة.. وهم مستقبلها.. ولكن حكامنا يتعاملون معهم منذ أكثر من 30 سنة تعاملهم مع ثرواتنا الأخري.. كالأراضي الشاسعة التي تباع للأجانب برخص التراب.. وكالغاز الطبيعي.. وشركات ومصانع القطاع العام.. وعمر أفندي الذي قد يقع بين أيدي الإسرائيليين مرة أخري.. إلخ. أطفالنا ثروة! يعني سلعة قابلة للتصدير!! أطفال للبيع.. لمن يدفع للآباء والأمهات وتجار الرقيق الثمن.. ناهيكم عن زواج القاصرات من كهول وعواجيز وكبار المسنين من بعض الدول العربية التي تعيش في بحبوحة من العيش تفوق بحبوبتنا.. بكثير. يصل الكهل في بلده مستندا بذرائع أحد أحفاده.. متجها إلي سماسرة ينتشرون في قري مصري.. ويقومون بدور الخاطبة بمعاونة إحدي نساء القرية التي تمتلك القدرة علي التسلل لبيوت الضحايا.. تسلل الثعابين لجحور الفئران المسالمة.. وتتعرف علي درجات الفقر والحاجة.. ثم تحدد سعر الضحية.. تبعا لشدة الحاجة. والسمسار.. كما تقول الزميلة ناهد حمزة.. يتسم عادة ببشاشة الوجه وحسن الطلعة.. والقدرة الفائقة علي الكلام والمراوغة.. وهو ما تطلق عليه الزميلة ناهد «الحلنجي». والحلانجي.. كما تقول.. يستطيع أن يلعب بالبيضة والحجر.. ويجعلك لا تستطيع أن تتبين الفرق بينهما.. وتصاب بالحيرة وأنت تتحسس البيضة في يد.. والحجر في اليد الأخري..وله من معسول الكلام ما يمكنه من استمالة أهل الفتاة وإغوائهم بالمال حتي يقبض نصيبه من الصفقة... ثم يتوكل علي الله. وكأي صفقة من هذا القبيل فإن البائع لا يتحمل تبعات ما سوف يجري للضحية في بلد الكهل.. وبعيدا عن عيون الأهل.. وفقا لما كان يردده الزعيم السوفيتي خروشوف: عيونكم رأت ما اشترت.. والآن كلوه! وإذا تطلعنا إلي تزايد أعداد زواج القاصرات بين بنات الريف في السنوات الأخيرة.. لوجدنا أنها الوجه الآخر لظاهرة أطفال الشوارع.. التي أسفرت عن إعدام التوربيني منذ أيام. نحن أمام العديد من الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي لم تكن تعرفها مصر طوال تاريخها الحديث.. وتعود كلها لسبب واحد.. هو غياب مبدأ عدالة التوزيع.. في ظل التخبط الواضح في السياسات والقرارات التي تتسم بضعف الإدراك.. والوهن العقلي.. طوال ربع قرن من الزمان. وهي السياسات التي أدت لعلاج ظواهر المشاكل.. دون علاج أسبابها.. أو العودة للنخبة من أهل الرأي للاستعانة بهم وبمراكز أبحاثهم في تقصي أسباب المشاكل للبحث عن حلول في جذور الأشجار وليس في ثمارها.. فحسب. من المشاكل التي تتردد بين الناس همسا.. علي سبيل المثال.. هذه الأيام.. مشكلة تجارة الأطفال في سن الرضاعة. يتحدثون عن تجارة رائجة لبيع الأطفال.. لأسر في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.. ويقال إن في سوق تجارة الأطفال نحو عشرة ملايين طفل في سن الرضاعة يتم بيعهم من بعض الدول الفقيرة.. لإسعاد ملايين الأسر في الدول الثرية. فقد شاءت إرادة الله.. سبحانه وتعالي أن تؤدي الرفاهية وارتفاع مستويات المعيشة في الدول الغنية.. لانخفاض عدد المواليد.. في الوقت الذي أدي فيه الفقر.. والتطرف الفكري والعقائدي.. والفساد، وعدم تداول السلطة.. إلي انفجار سكاني مروع يجتاح الدول الفقيرة. وكلما ازداد الفقر.. ارتفعت نسبة الإنجاب. وكلما ازداد الثراء والثقافة.. انخفضت نسبة الإنجاب. وكانت النتيجة أن تتحول الدول التي تستورد طعامها وفولها وعدسها وبصلها من الخارج.. إلي مصدرة لأطفالها في سن الرضاعة.. علي أيدي ما يسمي «الآباء البيولوجيين»! الدول الفقيرة تستورد الطعام. وتصدر الأطفال.. التي ينتجها آباء بيولوجيون. وقال لي صديق أمريكي.. إن هؤلاء الأطفال.. لا يتم التعامل معهم كأي سلعة في السوق.. وإنما هم يعاملون معاملة خاصة بسبب الأسعار المرتفعة التي تدفع في مقابلهم.. وبالتالي فهم يعاملون معاملة إنسانية.. قد لا يلقونها من الآباء والأمهات البيولوجيين أنفسهم (!!) والطريف في الموضوع.. أن الطلب في السوق الحرة لتجارة الأطفال.. يحدد الموطن الأصلي للطفل.. البعض يطلب طفلا من كمبوديا أو رومانيا.. أو روسيا أو الصين.. إلخ. ويقال إنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.. قامت العديد من الأسر الأمريكية بتبني الأطفال الأوروبيين الذين فقدوا ذويهم أثناء الحرب.. وحصلت هذه الأسر علي أطفال من العديد من الدول في مقدمتها ألمانيا وإيطاليا واليونان.. ثم ازداد الطلب علي الأطفال الكوريين بعد انتهاء الحرب الكورية.. وفي سنة 1975 بعد انتهاء الحرب في فيتنام حصل الأمريكيون علي ما يزيد علي ثلاثة آلاف طفل في عملية واحدة أطلق عليها «عملية ترحيل الأطفال»! وعند سقوط دول أوروبا الشرقية.. راجت تجارة الأطفال بشكل لم تكن تعرفه هذه الدول أثناء الحرب الباردة. وبعد سقوط نظام الزعيم شاوشيسكو زاد الإقبال بشكل ملحوظ علي إناث الأطفال.. وفي سنة 1989 غادر العاصمة الرومانية «بوخارست» ما يقرب من عشرة آلاف طفل في صفقات متفرقة. ومفهوم طبعا أن كل هذه الدول التي نتحدث عنها لم تواجه ظاهرة أطفال الشوارع التي شهدناها خلال الربع الأخير من القرن الماضي.. وأن ما جري من بيع الأطفال حدث نتيجة حروب أو انهيار دول.. أما عندنا فقد حدث في وقت السلم.. بما يعني أن حكامنا حققوا في ظل السلام.. ما اعتاد الأعداء تحقيقه في ظل القلاقل والحروب.. وحولوا أطفال الشوارع لإحدي القضايا الاجتماعية المستوطنة. أعود لموضوعنا.. وهو أطفال الشوارع.. بمناسبة إعدام التوربيني وحناطة.. فأقول :إن إعدام التوربيني وحناطة لن يحل مشكلة أطفال الشوارع.. ولا زواج القاصرات.. ولا تجارة الأطفال. الإعدام مطلوب طبعا.. من باب الردع.. ولكنه ليس حلا.. والمطلوب الآن هو البحث عن حلول حقيقية للمشاكل الاجتماعية التي تراكمت وتفاقمت طوال السنوات الأخيرة.. وفي مقدمتها.. الانتخابات الحرة النزيهة.. التي تصل لمقاعد النواب.. بنواب يعبرون عن أطفال الشوارع.. وليس فقط عن مصالح الشركات والاستثمارات والمنتجعات ورجال الأعمال. إننا لن نستطيع الانتقال من حالة التخلف الراهنة لحالة التقدم الذي ننشده وفي شوارعنا أربعة ملايين طفل لا يتمتعون بالحد الأدني.. مما تدعو إليه جماعات الرفق بالحيوان.. وكل ما يحلمون به هو اللحاق بركب القطط والكلاب في الخارج.