وفاة لوكي.. صانعة الزعماء! كانت لوكي تعرف مسئولية الزوجة في كل موقع يشغله زوجها.. وإذا كان هيلموت شميت قد حقق نجاحا لصالح أمته.. فإن الفضل يرجع إلي لوكي.. صانعة الزعماء! أكتب هذه السطور بعد ساعات من وفاة «لوكي» عن 91 سنة.. وبعد أيام قليلة من صدور مذكراتها بعنوان «فوق السجادة الحمراء». ولوكي.. هي زوجة المستشار الألماني الأسبق هيلموت شميت الذي تلقي النبأ المفزع.. وهو فوق الكرسي المتحرك يلقي محاضرة أمام جمعية الصداقة الألمانية - اليابانية حول آفاق التعاون الاقتصادي بين عمالقة الاقتصاد في العالم. ولوكي.. هي رفيقة حياة المستشار شميت.. منذ جلوسهما علي «دكة» واحدة في الفصل بالمدرسة الابتدائية في هامبورج.. وحتي وفاتها يوم السبت الماضي. لم تفارقه يوما.. وعاشت حياتها بجانبه. عاشت معه معارك النجاح ومعارك الفشل.. وتقول إنها كانت تدرس دور الزوجة عندما يكون الزوج نائبا في البرلمان.. أو وزيرا.. أو مستشارا.. أو مسنا علي المعاش.. كما كان شميت يطلق علي نفسه خلال السنوات الأخيرة.. «سياسي علي المعاش»! وفي كل مرة كانت تسأل نفسها: ما هو المطلوب من زوجة وزير الدفاع.. أو وزير الاقتصاد.. أو رئيس الوزراء.. أو أقوي رجل في أوروبا. في كل مرة كانت تقوم بالدور كما ينبغي أن يكون. كانت تعد حقيبة الزوج هيلموت شميت بنفسها قبل السفر.. وتعد لكل رحلة ما سوف يحتاجه خلالها. هي التي تعد له الطعام.. بنفسها.. في بيتها. هي التي تمضي الساعات الطويلة تستمع إليه وهو يعزف علي البيانو.. ويمارسان معا لعبة الشطرنج.. ويتحدثان في كل كبيرة وصغيرة تجري فوق سطح البحر المتلاطم الأمواج.. بحر السياسة الذي لا يرحم. وهي التي وقفت بجانبه في أكتوبر سنة 1981 عندما أجري عملية تركيب منظم لضربات القلب.. لم تنشغل عنه لحظة.. وهي التي ساعدته للإقلاع عن التدخين واستبداله بالبايب.. وقامت بالتدخين نيابة عنه! كانت لوكي زوجة ذكية. يصفها البعض بأنها زوجة «بروسية» وتنتمي للعسكرية البروسية.. وعصر الشهامة والصدق.. والزوجة التي تقوم بدورها كما ينبغي أن يكون. وهي بالفعل كانت كذلك.. وعندما كنا نجلس مع المستشار شميت في الجلسات الخاصة التي لم يكن ما يجري فيها مما يسمح به للنشر.. كانت الجملة التي تجري علي لسانه هي «قالت لي لوكي» أو «كنت في اليابان مع لوكي».. ويسرد الحكايات الطريفة عن دور لوكي في حياته. من الحكايات الطريفة التي رواها شميت أنه عندما كان مستشارا لألمانيا.. سافر إلي طوكيو لإجراء محادثات مع المسئولين في الحكومة اليابانية.. وعندما تحدد موعد لقائه بالإمبراطور في قصره.. جاءه المسئول عن المراسم وأبلغه بالتعليمات الخاصة بتناول الطعام علي مائدة الإمبراطور. وقال له إنه ليس مسموحا لأحد بالكلام إلا إذا أشار إليه الإمبراطور بذلك.. وقام مدير المراسم بشرح آداب المائدة.. والموضوعات التي سيتحدث بها الإمبراطور.. إلخ. يقول شميت إنه شرح لزوجته «لوكي» كل ذلك بالتفصيل إلا أنها ما كادت تأخذ مكانها حتي لفت نظرها عشرات الأنواع من الزهور النادرة بألوانها الزاهية تأخذ أماكنها علي المائدة بتنسيق رائع.. فسألت الإمبراطور: - هل تعرف يا سيادة الإمبراطور أسماء هذه الزهور؟ اندهش الإمبراطور للسؤال المباغت.. وابتسم بأدب.. ولم يرد.. بما يعني أنه لا يعرف أسماء هذه الزهور، ولكن «لوكي».. عادت تواصل الحديث.. وتشرح للإمبراطور أصل كل زهرة.. وتاريخها.. وأماكن زراعتها.. ومواقع تكاثرها في المناطق المتفرقة علي الكرة الأرضية.. والإمبراطور يبدي دهشته وإعجابه بكل هذه المعلومات.. وكان من الطبيعي أن يسألها عن سر اهتمامها بالزهور.. فقالت له إنها ترأس جمعية في ألمانيا لحماية الزهور المهددة بالانقراض! وقالت له إنها قامت بتأليف عدة كتب عن الزهور النادرة. وقالت له إنهم يطلقون عليها «صديقة الزهور».. وقالت له إن الشعوب التي تهتم بالزهور.. هي الشعوب الأكثر إنتاجا وأكثر قدرة علي الابتكار والإبداع.. ونبذ التعصب والجهل المركب. وقالت.. وقالت.. وقالت.. والإمبراطور يستمع في لهفة. وبعد العشاء قال مدير المراسم للمستشار الألماني: - إن تلك هي المرة الأولي التي استمع فيها العاملون بالقصر.. للضحكات تصدر من غرفة مائدة الإمبراطور!! كانت خفيفة الظل وسريعة البديهة وصاحبة نكتة كما يقولون.. وفي إحدي المناسبات.. طلب المستشار شميت من مسئول المراسم سنة 1980 أن أكون من بين المدعوين علي مائدته الرئيسية.. وجلست بجانب لوكي.. التي كانت دائمة السؤال.. عن كل ما يجري في القاعة.. وكانت قاعة النادي الأمريكي في قلب العاصمة القديمة بون.. تعج بالصحفيين من كل بقاع الأرض. كانت العلاقات الألمانية المصرية قد بلغت ذروتها الرفيعة في تلك الأيام في الوقت الذي اندلعت فيه حرب الشتائم بين شميت وبيجين.. وفهمت بعد ذلك أن دعوتي للجلوس علي المائدة الرئيسية بين المستشار شميت وزوجته لوكي.. كانت إشارة لمن يهمه الأمر في السفارة الإسرائيلية في بون! ماتت لوكي عن 91 سنة «هي من مواليد مارس سنة 1919» ويبدو أنها ورثت العمر الطويل عن عائلة الزوج العاشق شميت.. إذ مات جوستاف شميت.. والد المستشار الألماني شميت في أبريل سنة 1981 عن 93 سنة. كان والد شميت ناظرا.. لإحدي مدارس هامبورج وكان صارما.. ولم ينتخب هتلر علي الإطلاق.. وأمضي سنواته الأخيرة في إحدي دور المسنين.. وعندما كان المستشار شميت يزوره كان يحمل له سيجارا! قبل أن يموت.. استدعي الممرضة وطلب منها كوبا من عصير البرتقال.. احتساه علي أربع جرعات.. وفي كل مرة يعد.. واحد.. اثنين.. ثلاثة وفي المرة الرابعة قال للمرضة وهو يناولها الكوب الفارغ: - أستطيع الآن أن أموت! ومات بالفعل! في قصر المستشارية كان المشهد كالآتي: قال أحد مساعدي شميت: - سيادة المستشار.. تلقينا الآن نبأ محزنا.. أن والدكم قد توفي! فأجاب شميت: - إذا كان الموت أمرا لا مفر منه.. فإنني أدعو الله أن يريحه بالموت! وأتصور الآن.. وأنا أكتب هذه السطور.. أن الكلمات نفسها.. هي التي رددها هيلموت شميت.. منذ ساعات وهو يتلقي نبأ وفاة رفيقة حياته.. وظله طوال سنوات الصعود والهبوط.. الانتصار والانكسار. آسف لقد أطلت.. لأن الحكايات الإنسانية في حياة هيلموت ولوكي لا تنتهي.. وأعود إلي لوكي فأقول: إن هذه السيدة ولدت في مارس سنة 1919 لأسرة فقيرة وأب عاطل عن العمل.. وعاشت طفولة مشحونة بالفقر والحرمان.. ودرست بمعهد التربية لتعمل بالتدريس سنة 1937. انتقلت خلال طفولتها مع إخوتها بين ثلاث شقق صغيرة.. من تلك التي كان يسكنها العمال في فترة ما بين الحربين العالميتين.. الأولي والثانية (ما بين سنة 1918 و1939). منازل فقيرة في أحياء يسودها الظلام.. ولا تنمو بها النباتات.. وكان من تقاليد العائلات الفقيرة في تلك السنوات أن يدرس الأبناء لشغل حرفة ما.. فكانت «شقيقتي تعمل «طباخة» وأمي التي تعمل بالحياكة وشقيقتي الصغيرتين تعملان بالتطريز» وتقول لوكي: وكنت أشعر دائما بأننا نعيش في شقة مزدحمة. فحيث نسكن كانت تقيم جدتي وجدي لأمي.. وخالاتي.. وأولادهن.. ومع ذلك فكنا نشعر بالسعادة.. وننتهز فرص المناسبات العائلية كي نحتفل ونغني.. وتقول: كنت أري أمي وهي تضحك.. جالسة فوق السرير المعدني بعد أن أنجبت شقيقتي لندا.. وأن أهدتها خالتي باقة من الورد الأصفر الذهبي. وبعد سنوات قليلة من التحاقي بالمدرسة الابتدائية مع شقيقتي «لندا» وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1939.. وتعطل والدي عن العمل.. ولم يعد لنا مصدر رزق.. وبدأنا نواجه المتاعب. تفرغت أمي لحياكة الملابس.. وانشغل أبي بإصلاح الشقة.. وكنا نساعد مع اخوتي بقدر ما نستطيع لتوفير الإيجار الشهري.. ولم نكن نحصل علي مصروف.. كالأطفال الآخرين.. وكنت أشعر بالدهشة لرؤيتي نقودا في أيدي الأطفال في المدرسة.. إذ لم نكن نحصل علي مصروف.. لا قبل أن يتعطل والدي.. ولا بعد أن تعطل عن العمل. كنا نتناول طعامنا من حلة واحدة.. وكان أكثر ما يؤلمني أننا كنا نشتري طعامنا «بالشكك».. أي تحت الحساب. وانتقلنا لشقة أخري أكثر ضيقا.. وكنت أمضي ساعة كاملة سيرا علي الأقدام لأصل للمدرسة.. وعندما تعطل زوج خالتي عن العمل.. انتقل للحياة معنا في شقتنا الصغيرة.. مع خالتي وأولادها. آسف.. مرة أخري سوف أتوقف عن الاستطراد في سرد ما جري لهذه الفتاة في سنوات الطفولة.. وسنوات الحرب العالمية الثانية.. ووصول قوات الحلفاء إلي هامبورج.. حيث ولدت وعاشت.. وانتقل لعلاقتها بهيلموت شميت. تقول إن قصة الحب بدأت في المدرسة الابتدائية حيث كنت وهيلموت نشغل دكة واحدة.. وعندما اندلعت الحرب سنة 1939 انضم هيلموت للجيش وانقطعت أخباره عني. وبعد انتهاء الحرب التقيت مع هيلموت من جديد، وبدأ يعمل بالسياسة. كانت سنوات اشتغال هيلموت بالسياسة.. هي السنوات التي غيرت حياتي.. وبدأت أري الدنيا بعيون جديدة.. عيون السياسة. لم أعد طفلة أصبحت فتاة ناضجة.. تقف خلف الحبيب الأول.. وتكافح.. وتتعرف بمبادئ الحزب الاشتراكي الديمقراطي. واشتغلت بالسياسة.. خلف هيلموت.. أدافع عن المبادئ التي يدافع عنها.. وأقاتل خصومه.. وبدأت حياتي تتغير.. ونحن نعيد بناء ألمانيا التي هدمتها القنابل. وتزوجنا وفاز هيلموت في انتخابات البرلمان المحلي في هامبورج.. سنة 1949 ثم أصبح عضوا بالبرلمان الاتحادي سنة 1953، ثم وزيرا للداخلية بولاية هامبورج سنة 1961، وفي سنة 1969 أصبح وزيرا للدفاع.. وفي سنة 1972 تولي وزارتي الاقتصاد والمالية.. وفي سنة 1974 أصبح مستشارا بعد استقالة فيلي برانت إثر اكتشاف فضيحة مساعده جيوم الذي اتضح أنه يعمل جاسوسا لألمانياالشرقية. وأعيد انتخاب شميت لمنصب المستشار عدة مرات وهي السنوات التي وقفت لوكي خلفه خلالها.. كزوجة مثالية.. قدمت لألمانيا زعيما عظيما.. وكانت بالفعل زوجة عظيمة. كانت لوكي تعرف مسئولية الزوجة في كل موقع يشغله زوجها.. وإذا كان هيلموت شميت قد حقق خلال سنوات عمله نجاحا لصالح أمته.. فإن الفضل يرجع إلي لوكي.. صانعة الزعماء عاشقة الزهور.. عاشقة الحياة. ستظل لوكي في وجدان الشعب الألماني.. لأن العظماء لا يموتون.. بينما يموت الأنذال وهم علي قيد الحياة!