في مواجهة نادرة في التليفزيون الالماني في شأن لا يخص السياسة الداخلية لالمانيا أدارت الاعلامية مايبرت ايلنر الخميس الماضي حوارا حول الوضع في مصر شاهده ملايين الالمان. وشارك في الحوار التليفزيوني مصريون والمان منهم الكاتب المصري حامد عبد الصمد، الذي كفره السلفيون في مصر بعد محاضرة القاها في القاهرة في يونيو الماضي، ومن الطرف الالماني الصحفي المخضرم بيتر شول لاتور الذي عاصر في خمسينيات القرن الماضي حرب التحرير الفيتنامية ضد الاحتلال الفرنسي، كما شارك سياسي الماني من الحزب المسيحي الديمقراطي، والباحثة العلمية لبني عزام والمرشد السياحي مازن عكاشة. قبل ان ندخل في الموضوع.. بالطبع استهلك سؤال "هل ما حدث في مصر كان انقلابا ام ماذا؟" وقتا طويلا .. وهنا بالتحديد يمكن ان نري كيف يكيل الوعي – ربما بشكل لا شعوري – بمكيالين. وهاكم القصة: في العشرين من يوليو من كل عام يحج قادة الحكومة الالمانية الاتحادية، وعمدة برلين، وقادة الاحزاب، والبرلمانيين الالمان لساحة ولسجن في برلين نفذت فيهما قبل 69 سنة احكام الاعدام علي الكولونيل كارل شينك فون شتاوفينبيرج وزملائه الذين دبروا اغتيال هتلر في 20 يوليو 1944 لانقاذ المانيا من الكوارث التي اغرق فيها هتلر بلاده والعالم. وفي الخطابات التي تلقي في هذه الذكري يوصف شتاوفينبيرج وزملائه بأنهم وطنيون مخلصون، وديمقراطيون وابطال. وفي مدن المانيا شوارع ومؤسسات وثكنات عسكرية ومتاحف تحمل اسم شتاوفينبيرج تكريما لذكراه. ولا يرد علي خاطر احد ان محاولة التخلص من هتلر (والتي فشلت بالمصادفة البحتة) كانت مؤامرة من مجموعة من العسكريين للتخلص من حاكم المانيا الذي وصل الي الحكم بانتخاب "ديمقراطي"! اكتشاف العالم للفلسطيني الفذ ادوارد سعيد في للنظرة الاستشراقية في كتابه "الاستشراق" فسر لنا كيف ولماذا يحدث ان يري بعض الناس الامور علي ما يخالف حقيقتها. هذا عندما تتدخل مصالح واحكام مسبقة وتأثر بموروث ثقافي معين في قراءة الانسان للتطورات الجارية. حيرة الإعلام وربما يفسر ما سبق قوله حيرة جزء كبير من الاعلام الالماني، مثل حال كثير من وسائل الاعلام الغربي، ازاء التطورات الجارية في مصر. اثناء حكم مبارك اطبق الاعلام الصمت عن انتهاكات حقوق الانسان والسياسات المعادية للشعب. وبعد سقوط مبارك برزت العديد من مساهمات تحمل نقدا ذاتيا، وتكرر التساؤل عن مسئولية دول الغرب عن دعم الانظمة القمعية. ولكن في الوقت ذاته غلب علي التقارير والتحليلات الصحفية التنبؤ بأن المنطقة تواجه احتمالين لا ثالث لهما: اما دولة اسلامية واما حكم عسكري. والجو الاعلامي الحالي تسوده عناوين مثل: "انقلاب عسكري، الرئيس المنتخب ديمقراطيا في السجن، قمع دموي، اعتقالات بالجملة، مصر تسير نحو الديكتاتورية العسكرية". في صورة هذا الاعلام يكاد لا يوجد من قوي مئثرة سوي الجيش والاخوان في مصر. كريم الجوهري المراسل التليفزيوني والصحفي للاعلام النمساوي والالماني، والذي قدم سابقا العديد من المقالات والتقارير عن التطورات في مصر، يكتب مؤخرا مقالا في اليومية الالمانية Taz (16/8) بعنوان "الليبراليون يريدون رؤية الدم"، ولا يقدم مقاله دليلا يبرر ادانته الاجمالية لليبراليين المصريين، ثم يزيد فيتهمهم (هكذا بالجملة) بعقد "حلف شيطاني مع العسكر" وفي رأيه ان الليبراليين "سيعودون ليصبحوا "كما كانوا دائما في مصر … متفرجين خلف السور علي صراع بين العسكر واجهزة الامن من جهة وبين الاخوان المسلمين". وفي نفس الصحيفة تتحدث سيليا هاردرز استاذة العلوم السياسية في جامعة برلين الحرة عن احتمال ان تكون حركة تمرد مدفوعة من المخابرات واجهزة الامن وبالرغم من ذلك فهي تعترف للحركة بانها مبادرة سلمية ورد فعل للسخط علي الحكم. في القنوات التليفزيونية والصحف الكبري تغلب اخبار ضحايا قمع الاعتصامات واحتجاجات الاخوان المسلمين. والعجيب أن اخبار وصور ضحايا اعتداءات الاخوان والدمار الذي الحقته الهجمات الهمجية علي الكنائس والمتاحف لم تجذب اهتماما اعلاميا كما تجذب عادة حوادث الحرائق او السيارات. المواجهة تصدي حامد عبد الصمد لحالة الاعلام الألماني بنقد صريح ولفت النظر لانتفاضة ملايين المصريين ضد حكم الاخوان وهي المحرك الذي دفع لتحقيق التغيير، وشرح لمتحدثيه كيف جاء اجراء الجيش داعما لمطلب ملايين المصريين قبل ان يتمكن مشروع الاخوان الاستبدادي، وبعد محاولات التوصل لحلول لا تؤدي لصدام. ولم يبالغ عبد الصمد في التفاؤل منبها الي أن معركة قيام دولة مدنية ديمقراطية انما هي معركة طويلة اخذت في المانيا قرنا من الزمان (1848- 1949). حديث عبد الصمد اثار الصحفي شول لاتور، وهو مؤلف كتاب "سيف الاسلام – ثورة باسم الله" سنة 1990، والذي شوه صورة الاسلام والمسلمين، وقدم هذا الكتاب المادة لفيلم تليفزيوني خدم الاعداد النفسي للحرب الانجلو امريكية ضد العراق. رد فعل شول لاتور كان التشكيك في ان ثورة ما قد قامت في المنطقة "لم يحدث ان كان هناك ربيع عربي" وتكرر في تعبيراته واقواله ما يشير الي عدم احترامه لارادة الشعوب، وظل يكرر قناعته بأن المسألة لا تتعدي انقلابا عسكريا. وشكك في كل ما جري بعد 3 يوليو. وبدا متحصنا بمناعة ضد المعلومات والحقائق عن الوضع في مصر ودفع هذا السلوك عبد الصمد لان يقول له "أن يقال لك في التليفزيون انك اسير الحرب الباردة". وبين له انه بعيد تماما عن الواقع علي الارض وعن الاجيال الشابة التي تحمل راية الحرية والديمقراطية. خلافا للقنوات التليفزيونية المشغولة غالبا بالانتخابات القادمة بعد اقل من شهر، يسهم مراسلون وكتاب صحفيون في نقل صورة موضوعية عن التطور المعقد في مصر. وهم ينقلون آراء المواطنين المصريين والاحزاب ومن هذه الصحف سيد دويتشه تسائيتونج وفرايتاج ونويس دويتشلاند وصحف اليسار عموما. ولا بد من تفهم ان استمرار المواجهات وسقوط ضحايا في مصر – أيا كان المتسبب- سيقدم للقوي المتغطرسة في اوروبا والعالم حجج لممارسة المزيد من الضغوط. ولا شك في ان الغرب يريد حماية حلفائه المحليين حتي وان لم يعد يثق فيهم تماما. وسيناريو عودة انظمة تشبه الناصرية، او تأتي بشئ من ديمقراطية حقيقية، الامر الذي يهدد ثبات صورة لمنطقة عربية لا تزيد عن كونها بئر بترول وسوقا وقواعد .. هذا لن يسر لا البيت الابيض ولا حلفاءه.