لازالت ردود الفعل العربية والدولية تتوالي تعقيبا وتحليلا للأحداث في مصر، البعض تعاطف مع تلك الأحداث وأسماها «ثورة» تضامنا مع ملايين المصريين الذين خرجوا إلي الشوارع والميادين ضد حكم الإخوان، والبعض الآخر يصر علي أنها انقلاب عسكري صرف تمت الاستعانة بملايين الجماهير عبر دفعها إلي الشوارع وتشجيعها علي التظاهر بحماية الجيش والشرطة للإطاحة بنظام الإخوان في سلسلة عمليات المطاردة بين الجيش والإخوان التي بدأت مبكرا بعد ثورة يوليو 1952 بشهور قليلة، واستمرت إلي الآن هناك من المحللين والسياسيين والكثير من المؤسسات والهيئات الرسمية والتمثيلية الدولية من رأي في تلك الأحداث ثورة شعبية مدعومة بانقلاب عسكري، أي نصف ثورة ونصف انقلاب بالتساوي، حيث تلاشت مصالح ورغبات شعبية هائلة مع أهداف الجيش في الحفاظ علي الأمن القومي الذي بدأ في الانهيار بعد الاقتصاد والأمن الداخلي بحيث لم يعد ممكنا التوقف أو انتظار فرصة أخري للتحرك ضد «مرسي» وجماعته، إذ كانت كل الظروف مواتية، المعارضة المدنية قامت بدورها وكذلك الإعلان المستقل وتحركت مؤسسة القضاء بقوة، ولم يعد مع مرسي أي حلفاء أو مؤسسات قوة تسانده سوي «مجلس الشوري» الذي عين نصف أعضائه، وتم انتخاب النصف الآخر في مهزلة انتخابية سرية لم يشارك فيها سوي 6% من عدد الناخبين، وتم نقل صلاحيات «التشريع» لهذا المجلس، بعد أن حاول مرسي الاحتفاظ بها بعد إطاحته بالمجلس العسكري عبر إصدار الإعلان الدستوري الديكتاتوري في 21 نوفمبر الماضي، وإزاء المعارضة الهائلة، سحب هذا الإعلان شكليا ونقل صلاحيات التشريع للمؤسسة الوحيدة التي ظلت تعمل مع مرسي، بالإضافة إلي حكومة ضعيفة فشلت في حل المشاكل الأساسية، وتحالف من القوي المتأسلمة بقيادة جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية وغيرها، كان مكتب الإرشاد يحركها جميعا. رئيس افتراضي مرسي الذي تحول في آخر أيامه إلي رئيس افتراضي بعد أن سحب الجيش دعمه للشرعية خطوة خطوة في عملية تكتيكية بارعة، وهو ما قامت به الشرطة أيضا، حاول اللعب بالورقة الوحيدة الباقية له وهي التهديد «بحرب أهلية» وبإثارة العالم «الديمقراطي» ضد الانقلاب العسكري، ويبدو أن هناك الكثيرين في الغرب الذين صدقوا خطاب مرسي، أو الذين راهنوا علي نظام الإخوان لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وضمان تدفق النفط من الخليج وشمال أفريقيا، واستمرار حركة الملاحة آمنة في قناة السويس، وعدم شن أي حرب أو تهديد ضد إسرائيل، ثم تشكيل تحالف عربي تحت راية الإسلام «السني» لمواجهة الإسلام «الشيعي»، وتم تحويل سوريا إلي ساحة جديدة لهذه الحرب التي التحق بها «مرسي» متأخرا في محاولة لتجميع القوي السلفية والإرهابيين المتقاعدين خلفه في ظل اهتزاز حكمه بشدة. الارتباك الأمريكي الظاهرة الأبرز في الارتباك علي الصعيد العالمي تتمثل في الولاياتالمتحدة، التي تتنازع تحديد المواقف والسياسات الخارجية عدة جهات بدءا من البيت الأبيض والرئيس باراك أوباما ثم الإدارة نفسها وخاصة وزارة الخارجية التي تضم خبراء الشرق الأوسط الذين غالبا ما يستمرون في مواقعهم رغم تغير وزراء الخارجية، الذين يضطرون في النهاية للخضوع لآراء وتوجهات الخبراء وهناك وزارة الدفاع «البنتاجون» والمخابرات المركزية (C.I.A) وبقية جهات التحري والتجسس، ومراكز المعلومات والأبحاث وجماعات الضغط، وإلي جانب ذلك كله الكونجرس بمجلسيه «النواب والشيوخ» حيث اللجان المتخصصة «العلاقات الخارجية والمعونات والأمن القومي» و«الميديا» الأمريكية الضخمة تتقدمها الصحف الكبري «الواشنطن بوست والنيويورك تايمز» والمحطات الفضائية «سي. إن. إن» وغيرها، وكل هؤلاء تعاملوا مع الأحداث المصرية بكثير من الارتباك في التحليل، وإن غلبت توصيفات ما حدث «بالانقلاب» ووسط حالة الارتباك تلك تراجع أوباما عدة خطوات عن تصريحاته الأولية الداعمة «للشرعية» مثلما يقول مرسي وحلفاؤه، ودفاعه عن «الانتخابات» كوسيلة وحيدة لتداول السلطة، ولكنه اضطر إلي الرضوخ والتراجع عن توجيه انتقادات حادة بعد أن تلقي في المقابل سيلا من الانتقادات المضادة من شخصيات رسمية ومن هيئات في الكونجرس وصحفيين، أجمعوا علي أن الرئيس أوباما مثل سابقيه أثبتوا فشلا في فهم طبيعة الشرق الأوسط وعملية الصراع والتحولات السياسية في مصر، والأهم إساءة تقدير انحياز جماعة الإخوان للديمقراطية، بعدما قامت بسلسلة من الإجراءات غير الديمقراطية مثل الإعلان الدستوري الديكتاتوري الذي اتخذه مرسي في نوفمبر الماضي. الكاتب المعروف «توماس فريدمان» كتب تعليقا ساخرا قال فيه: «إن مرسي تصرف مثل لص يجري في الشارع طالبا الاستعانة بالجميع لاستعادة الثورة التي سرقت منه»! والكاتب روجر كوهين كتب في نيويورك تايمز يقول: «إن مرسي أخطأ بقراءة الربيع العربي والثورة التي أنهت عقودا من الديكتاتورية، وقادت مصر إلي انتخابات رئاسية حرة ونزيهة، تحولت إلي رغبة للتمكين الشخصي وإقامة حكم استبدادي جديد، من جانب نظام يرفع شعارات إسلامية ولكنه رفض التمسك بحرية الاختلاف وحقوق المواطن علي أساس الحقوق المتساوية للجميع». وأضاف كوهين: «لقد أضاع مرسي فرصة هائلة عندما رفض الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وصم أذنيه ولذا فأنا أقول إنه كان يجب أن يرحل». الجيش المصري لا يريد المعونات وزير الدفاع الأمريكي «تشال هاجل» أجري ثلاث محادثات هاتفية مع الفريق عبدالفتاح السيسي، في محاولة لاحتواء ردود الفعل السلبية الصادرة في العاصمة الأمريكية، والتي قوبلت بردود فعل غاضبة في الدوائر الرسمية والشعبية في مصر، والأهم محاولة معرفة إلي أين تسير الأوضاع في مصر، وخارطة الطريق الجديدة للحكم والعلاقة الاستراتيجية مع الجيش المصري، الذي قد تتسبب تصريحات خاطئة أو إشارات بقطع المساعدات العسكرية (3.1 مليار دولار قيمة مشتريات أسلحة عسكرية وبرامج تدريب)، والتي قد يرد عليها الجيش المصري من جانبه برفض تلقي تلك المساعدات إذا اشترطت بالتدخل في الشئون المصرية الداخلية، خاصة أن الجيش أثبتت قدراته المالية بالتبرع ب 300 مليون جنيه لدعم الاقتصاد المصري المنهار في حملة شعبية، كما سبق له وأن قدم عدة مليارات من الدولارات لدعم هذا الاقتصاد أيام مرسي. الديمقراطية يضعها الديمقراطيون بعيدا عن حالة الارتباك علي الساحة الأمريكية ومحاولات إنقاذ المصالح الاستراتيجية الأمريكية في مصر وعدم المخاطرة باغتصاب الجيش المصري والملايين الذين خرجوا في الشوارع يهتفون ضد الدعم الأمريكي لنظام الإخوان، فإن الموقف الأوروبي المرتبك أيضا نظرا لوجود 26 دولة في الاتحاد الأوروبي تم التعبير عنه بشكل جيد من خلال رئيس المفوضية الأوروبية «خوسيه مانويل باروسو» بقوله: «إن الديمقراطية يصنعها الديمقراطيون» وما حدث في مصر ليس انقلابا، فالجيش المصري جاء لتصحيح الوضع المنهار، والديمقراطية ليست فقط انتخابات، وإنما قدرة الدولة علي توحيد الشعب وليس علي تقسيمه». وذكرت صحيفة الصاندي تايمز البريطانية الولاياتالمتحدة بالمصير الذي لقيه الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون الذي انتخب في انتخابات ديمقراطية نزيهة وحرة مرتين، ولكن تمت الإطاحة به من خلال الكونجرس بعد ثبوت تورطه في قضية التصنت علي منافسيه «قضية ووتر جيت»، ولم يقل أحد وقتها إنه رئيس منتخب، وأضافت الصحيفة أن الديمقراطية تأتي أحيانا عن طريق الانقلاب الناعم وليس بإجراء انتخابات حرة نزيهة قد يفوز بها رئيس ديكتاتوري. والواقع أن مصر وكذلك دول الربيع العربي وبقية الدول التي لم يصل إليها هذا الربيع «لحسن حظها» لم تعرف أبدا الديمقراطية علي الطريقة الغربية حيث التعددية السياسية والحزبية واقتراح القانون والحريات العامة وقواعد الليبرالية الأصلية في السوق، وإنما ظلت تحكم من أنظمة تسلطية أحيانا وأخري تمزج النظامين المدني والعسكري، وتوظف المؤسسات المنتخبة لخدمة هذه الأنظمة، في ظل وجود غالبية ساحقة من الجماهير ترزح تحت نار الفقر والتهميش والجهل والبطش الأمني. وقد كانت الآمال واسعة علي أن تنجح ثورات الربيع في تحقيق قفزة نحو بناء مجتمعات حرة وأنظمة سياسية ديمقراطية تحقق ا لحريات العامة والخاصة وتحقق العدالة الاجتماعية بوسائل فاعلة أكثر في برامج التنمية الاقتصادية التي حققت نموا تم احتجازه لصالح الطبقات العليا وقوي الفساد، ولكن ذلك لم يتحقق. وفوجئت الشعوب بأنظمة قمعية تحكم باسم الدين وتوظفه لبناء علاقات اجتماعية جديدة وتحالف طبقي جديد يحتكر الثروة، مع غياب دولة الكفاءة والرشادة وشيوخ الفساد والفوضي في إطار فرض أهل الثقة في الجماعة والعشيرة. ولذلك رأي كثير من المحللين في الغرب أن الثورة المصرية الجديدة جاءت تعبيرا عن الإحباط الذي لحق بالشعب، والغضب الذي لحق بالجيش نتيجة إهدار الأمن القومي علي يد جماعة الإخوان، فتلاقت الإرادتان وكانت الفرصة لثورة جديدة، أما المهم فهو كيف لهذه الثورة أن تنتصر وأن تحقق ما فشلت فيه ثورة يناير، وأن تبني إجماعا وطنيا جديدا وتبعد البلاد عن حرب أهلية هي السلاح الباقي للإخوان وحلفائهم الإرهابيين.