فشل الوصفات الاقتصادية «الجاهزة» في تحقيق التنمية البشرية كتب : حسين البطراوي أكد تقرير التنمية البشرية لعام 2013 والذي حمل عنوان «نهضة الجنوب.. تقدم بشري في عالم متنوع» أن النمو الاقتصادي وحده لا يحقق تلقائيا تقدما في التنمية البشرية، وأشار التقرير إلي أن السياسات المناصرة للفقراء والاستثمار في البشر، بالتركيز علي التعليم والتغذية والصحة والتشغيل هي التي تتيح للجميع إمكانية الحصول علي العمل اللائق وتحقيق التقدم المستمر. وأرجع التقرير نهضة معظم بلدان الجنوب إلي تخلي تلك البلدان عن الوصفات الاقتصادية الجاهزة لوصف السياسات العامة، خاصة وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، والاعتمادات علي سياسات عملية انطلاقا من الظروف والفرص المحلية لكل دولة، وهذه السياسات جاءت وليدة الاقتناع بضرورة تفعيل دور الدولة في التنمية، والإصرار علي النهوض بالتنمية البشرية، ودعم التعليم والرعاية الاجتماعية والانفتاح علي التجارة والابتكار، وهو ما جعل صانعي السياسة يوجهون الاهتمام لقضايا المساواة، والاستماع إلي صوت الجميع، والمساءلة ومعالجة المخاطر البيئية ومواكبة التغيرات الديمجرافية. ويضرب التقرير أمثلة لدول الجنوب التي حققت نتائج مبهرة في التنمية البشرية مثل أندونيسيا والبرازيل وتركيا وجنوب أفريقيا والصين والهند، وحققت بعض دول الجنوب الأخري تقدما ملحوظا كما في بنجلاديش وتونس ورواندا وشيلي وغانا، وموريشيوس واحتلت مصر الموقع 112 من 186 دولة. نجاحات دول الجنوب في تحقيق التنمية البشرية تدفع إلي إعادة صياغة الأفكار حول كيفية تحقيق التنمية البشرية أو يدعو إلي إعادة النظر في السياسات «الصحيحة» لتحقيق التنمية البشرية. محركات التنمية لكن كيف استطاعت دول الجنوب تحقيق تقدم ملحوظ في التنمية البشرية، التقرير يرصد ثلاثة محركات أساسية للتنمية البشرية من خلال تجارب دول الجنوب. المحرك الأول وهو الدول الإنمائية الفاعلة، حيث تتولي الدولة الفاعلة والمسئولة وضع السياسات للقطاعين العام والخاص، مستندة إلي رؤية ثاقبة وقيادة قوية، ومعايير مشتركة وقوانين ومؤسسات تبني الثقة والتماسك للمستقبل، والدول التي حققت نجاحات مبهرة في التنمية البشرية وضعت سياسات مختلفة تتفق مع وضعها وظروفها الداخلية، وتناولت هذه السياسات ما تواجهها من تحديات تنظيم السوق، وتشجيع الصادرات والتنمية الصناعية والتقدم التكنولوجي، مع التركيز علي الإنسان في تحديد الأولويات وتأمين الفرص، بالإضافة إلي الحرص علي حماية الأفراد من مخاطر التراجع. اختراق الأسواق أما المحرك الثاني فكان اختراق الأسواق العالمية، فقد لعبت الأسواق العالمية دورا مهما في تحفيز التقدم، فقد اعتمدت الدول حديثة العهد في التصنيع استراتيجية «استيراد ما للعالم خبرة به وتصدير ما يحتاج إليه»، لكن يبقي الأهم شروط التعامل مع الأسواق، إذا تبقي العائدات محدودة ما لم يكن أساسها الاستثمار في الأفراد، فالنجاح ليس نتيجة لانفتاح مفاجئ علي الأسواق، بقدر ما هو ثمرة اندماج تدريجي في الاقتصاد العالمي يجري علي مراحل، ويرافقه الاستثمار في الأفراد والمؤسسات والبنية التحتية وفقا للظروف المحلية. الابتكار أما المحرك الثالث وهو الابتكار في السياسات الاجتماعية، فيشير التقرير إلي أن قليل من البلدان التي تمكنت من الحفاظ علي النمو السريع المطرد من غير استثمارات عامة كبيرة، ليس فقط في البنية التحتية، بل في التعليم والصحة، فخطة التنمية التي تحقق التنمية تسهم في زيادة الأصول لصالح الفقراء من خلال زيادة الإنفاق العام علي الخدمات الأساسية، وهي تحسين عمل مؤسسات الدولة والمؤسسات الاجتماعية بهدف تحقيق النمو والمساواة علي حد سواء، وهي تزيل الحواجز الاجتماعية والبيروقراطية التي تعوق المشاركة في النشاط الاقتصادي والحراك الاجتماعي، وهي قضية مساءلة القادة، ومشاركة المجتمعات في تحديد أولويات الميزانية وتعميمها. أولويات السياسة ويؤكد التقرير أن أولي مهام الدولة الإنمائية هو تصحيح أولويات السياسات الذي يفوق في الأهمية تصحيح الأسعار، فالسياسات يجب أن تركز علي الإنسان، ولابد أن تكون عملية صنع السياسات صحيحة أيضا، فالمؤسسات الحاكمة والسياسات ترتبط ارتباطا عميقا، إذا لا يمكن أن ينجح أي منهما دون الآخر، ومن المهم أن يدير عمليات وضع السياسات أشخاص ملتزمون يعملون في إطار هياكل حكومية متجاوبة وفعالة، وتتغير السياسات أيضا في مختلف مراحل التنمية، ففي المراحل الأولي مثلا يعطي العديد من الدول أولوية توفير فرص العمل والحد من الفقر. تجربة أندونيسيا ففي أندونيسيا علي سبيل المثال، ومنذ منتصف السبعينيات وبفضل عائدات الثروة النفطية المكتشفة حديثا، جمعت أندونيسيا بين التصنيع بهدف إحلال الواردات والتركيز علي التنمية الزراعية والريفية، وأدت استراتيجية النمو المتوازن هذه إلي زيادة الطلب علي القوي العاملة مما أدي إلي الحد من البطالة وزيادة الدخول الحقيقية، وفي منتصف الثمانينيات عندما بدأت عائدات النفط في التراجع، تحولت أندونيسيا من إحلال الواردات إلي التصنيع الموجه للخارج، جاذبة القوي العاملة الفائضة من الزراعة للعمل في الصناعة لقاء أجور أفضل، وبحلول أوائل التسعينيات بعدما استوعبت الصناعة القوي العاملة، استمر خفض الفقر بوسائل أهمها الزيادة في الأجور، ونجحت أندونيسيا في تعديل استراتيجية النمو حسب الظروف المتغيرة في كل مرحلة. تعزيز الاستثمار العام ركز فكر السياسة الاقتصادية والاجتماعية التقليدي، كما أكده «إجماع واشنطن» علي وضع الأسس الاقتصادية «الصحيحة» كشرط مسبق للنمو الاقتصادي، بحجة أن التحسن في التنمية البشرية يأتي نتيجة للنمو الاقتصادي، غير أن نجاح التنمية البشرية لا يجيز تأجيل التحسن في حياة الفقراء، وهكذا تكون الدولة الإنمائية التي توعي الإنسان هي الدولة التي تعمل علي توسيع نطاق عدد من الخدمات الاجتماعية الأساسية، ومن هنا لا يكون الاستثمار في قدرات الأفراد من خلال الصحة والتعليم والخدمات العامة الأخري ملحقا بعملية النمو، بل هو جزء لا يتجزأ منها. ولا تتوقف فعالية الإنفاق العام علي مستويات هذا الإنفاق، بل لأوجه الإنفاق العام أو كفاءة تخصيصه تأثير بالغ علي فاعلية تقديم الخدمات العامة وتوسيع الإمكانات. ويرصد التقرير عدة تجارب، منها بنجلاديش والتي تمكنت من تحقيق نمو مطرد وبتدابير منها زيادة معدل الاستثمار العام تدريجيا، مع تجنب العجز المالي الذي شهدته سائر الدول النامية، أما الهند فزادت من الانفاق الحكومي المركزي علي الخدمات الاجتماعية والتنمية البشرية من 4.13% في عام 2006 إلي 5.18% عام 2012، وارتفعت حصة الخدمات الاجتماعية من مجموع الانفاق من 6.21% إلي 25% خلال الفترة نفسها. الإصلاح علي المدي الطويل التحول الدائم والمستمر هو عملية طويلة المدي وتتطلب من الدول العمل علي وضع نهج ثابت ومتوازن في التنمية، وقد تبدو بعض الحلول التقنية أو الإدارية حلولا سريعة ومناسبة لكنها تبقي حلولا غير كافية في حد ذاتها. فالصين شهدت أواخر السبعينيات إصلاحات موجهة نحو السوق، من الاقتصاد الموجه إلي اقتصاد السوق، ومن الريفي إلي الحضري، ومن الزراعة إلي الصناعة التمويلية والخدمات، ومن أنشطة اقتصادية غير نظامية إلي أنشطة اقتصادية نظامية، ومن مجموعة مجزأة من الاقتصاديات القروية إلي اقتصاد أكثر تكاملا، ومن اقتصاد منعزل عن العالم إلي قوة تجارية دولية، وقد تطلب حجم هذه التغييرات الجذرية دولة ملتزمة تنطلق من رؤية طويلة الأمد لبناء المؤسسات والقدرات اللازمة. وقد عملت القيادة الصينية علي تغيير الحرس القديم الذي كان يتوقع أن يقاوم التغيير، بأجهزة حكومية أصغر سنا وأكثر انفتاحا وأفضل تعليما، وبحلول عام 1988 كان أكثر من 90% من المسئولين معينين منذ 6 سنوات فقط، ولايزال بناء القدرات من الأوليات، ومستوي تعليم المسئولين يرتفع باستمرار. أما في البرازيل، فبداية تحول البرازيل إلي دولة إنمائية عام 1994، وكانت الحكومة قد نفذت إصلاحات علي مستوي الاقتصاد الكلي كبح التضخم من خلال «خطة ربال» وأثبت تحرير التجارة الذي بدأت عام 1988 بتخفيض التعريفات الجمركية وإزالة القيود الأخري، وتبع ذلك انفتاح تجاري وسياسة نقدية ومالية حكيمة، وكذلك برامج اجتماعية أدت إلي الحد من الفقر، وتقليص الفوارق في الدخل. تجار التنمية ولا يمكن لاستراتيجيات التنمية أن تنجح دون الالتزام بتكافؤ الفرص، وإعطاء كل فرد فرصة عادلة للتمتع بثمار النمو، والتقرير يؤكد أن الارتقاء بمستويات التنمية البشرية يساعد علي دفع عجلة النمو الاقتصادي، ويشير التقرير إلي أن مدي الالتزام بتعميم التعليم وخصوصا تعليم الفتيات يعد اختيارا فعليا لالتزام أي حكومة بتكافؤ الفرص، فالدول التي بلغت مستوي مرتفعا في النمو واستمرت عليه لأجل طويل هي الدول التي بذلت جهودا أكبر في تعليم المواطنين وبناء رأس المال البشري، فالاستثمار في التعليم مهم لتحسين المهارات المعرفية، غير أن فوائد التعليم لا تستمد في إنتاج المهارات المنخفضة قدر ما تأتي من التعليم للجميع وتحسين الصحة العامة مصدرا مهما أيضا لدعم النمو المتواصل في تحسين إنتاجية العمال. فالنمو في ظل تفاقم عدم المساواة إنما ببطئ التقدم في التنمية البشرية ويضعف التماسك الاجتماعي، ويعوق جهد الحد من الفقر، ويفتقر هذا النوع من النمو إلي الاستدامة. فأندونيسيا مولت الحكومة بها بناء مدارس التعليم الأساسي، وزادت ميزانية التعليم إلي أكثر من الضعف، وفي موريشيوس توصلت الحكومة إلي إجماع وطني حول تأمين التعليم والخدمات العالية الجودة والمجانية في التعليم الابتدائي والثانوي والعالي، وفي أوغندا ألغيت الرسوم المدرسية للتعليم الابتدائي عام 1997 علي سبيل المثال. أخيرا، التقرير يؤكد علي أهمية أن تكون تجارب التنمية نابعة من الواقع المحلي، بعيدا عن الوصفات الجاهزة للمؤسسات الدولية المالية، وأن تكون السياسات الاقتصادية قابلة للتعديل للتوافق مع متطلبات المرحلة، علي أن تكون الحكومة قوية ذات رؤية استراتيجية بعيدة المدي، وتحظي بإجماع المواطنين، وتعمل علي تحقيق التنمية البشرية بالمعني الحقيقي.