كتاب «نقد ثقافة التخلف»، الصادر حديثا عن دار الشروق ومكتبة الأسرة بمصر، هو واحد من أهم ما كتب الناقد المصري جابر عصفور. فهو يقوم بعمليات تفكيك كبري عديدة: تفكيك التخلف، وتفكيك القمع الفكري، وتفكيك الخطاب الديني، وتفكيك دولة التسلط، منتجة التخلف السياسي الذي يقترن بغياب الديمقراطية، وقيام الدولة علي القوة القمعية، التي تبررها وتحافظ علي بقائها والتخييل بأنها الممكن الوحيد الذي لا يأتي بعده سوي الطوفان. يقوم «نقد ثقافة التخلف» علي ثلاثة أركان رئيسية: يكشف الركن الأول «الأصول التراثية للتخلف»، ويحلل الركن الثاني «آليات الخطاب الديني»، ويعالج الركن الثالث شعار «الإسلام دين ودولة».. «الاتباع» خصيصة من خصائص مدرسة النقل، المضادة لمدرسة العقل، في الثقافة العربية. من صفات النقل: التقليد والإذعان والتسليم، الذي يعني طاعة اللاحق للسابق، وانصياع المتأخر للمتقدم، واتباع الخلف للسلف، ويعني كراهة الابتكار والاجتهاد والتجديد، انطلاقا من أن «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»! ويوضح صاحب «أنوار العقل» أن النقل سلاح أساسي من اسلحة السلطة السياسية المستبدة، إذ نقطة اللقاء بينهما هي مفهوم «الجبر» واستغلاله ايديولوجيا ، باشاعة مبدأ «قدم الإسلام لا تثبت إلا علي قنطرة التسليم»، وترويج قاعدة «إياكم والتعمق، فإن من كان قبلك هلك بالتعمق»، وعلي الرغم من أن أهل العقل والدراية والاستنارة قاوموا هذه النزعات النقلية القائمة علي التقليد والرواية، مقاومة تجلت في نموذج الجاحظ المعتزلي الذي دعا إلي وضع كل أمر موضع التمحيص والمساءلة بقوله: «اعرف مواضع الشك لتعرف مواضع اليقين»، مواصلا في ذلك نموذج استاذه ابراهيم بن سيار النظام، المعتزلي، حين قال : «الشاك اقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتي كان قبله شك»، فإن هذه المقاومة لم تنتصر، بسبب تحالف السلطة السياسية مع أهل النقل والسلف ، حين نصر الخليفة المتوكل أهل التقليد والاتباع علي عقلانية المعتزلة حتي تسود مفاهيم التسليم والخضوع، في السياسة والدين علي السواء. و«الآخر» الذي تنكره ثقافة النقل والجمود والتخلف ، آخران: آخر داخلي عربي مجدد مجتهد يعمل العقل كأهل الكلام والفلاسفة الذين أكدوا مفهوم التقدم الإنساني وأثبتوا الحرية التي تجعل من الكائن مختارا لأفعاله، قادرا علي صنع مصيره. وقد جابهه النقليون بالتسفيه والنفي والتكفير، عبر شعار «من تمنطق تزندق» وعبر تحذير سفيان الثوري: «من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة». وآخر أجنبي غاز دخيل ومستعمر وعدو، بدأ الصدام به مع بدء الفتوحات الإسلامية والاتصال بالحضارات الأخري واسئلتها الوجودية والفلسفية المزلزلة. استند التمييز علي فهم عصبوي متزمت للنص القرآني الكريم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، فصارت علوم الأمم المغايرة كافرة أو باطلة أو عاطلة. وصارت «الفلسفة» من شرور الآخر الأجنبي الدخيل ، فتم تحريمها أو حرقها (وكما حدث في الاندلس مع بن رشد، وفي مصر مع نصر حامد أبو زيد)، وسادت فتوي ابن الصلاح الشهرزوري في القرن السابع الهجري «الفلسفة اس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيع والدندقة» وهي واجبة الاستئصال والاقصاء. الأزهر والفتاوي الصادمة ينتقل صاحب «مواجهة الارهاب» في الركن الثاني من الاركان الثلاثة لكتاب «نقد ثقافة التخلف» إلي تفكيك العنف في «الخطاب الديني المعاصر»، موضحا أن عوائق الحرية في أزماننا الحاضرة، لم تعد منسوبة فحسب إلي الاستبداد السياسي المدني أو العسكري، بل صارت منسوبة كذلك إلي جماعات ضغط دينية معادية للدولة المدنية وللفكر والفنون علي السواء. أما النموذج الذي يسلط عليه ناقدنا كشافه التحليلي الفاضح للخطاب الديني السلفي المتزمت فهو فتوي مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة بتحريم الصور والتماثيل والرسوم (عام 2006) انطلاقا من حديث نبوي شريف يقول: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ، المصورون»، واصلا هذه «الفتوي الصادمة» بسابقة صادمة مماثلة هي فتوي المفتي جاد الحق علي جاد الحق (عام 1980) التي رأت «حرمة وضع التماثيل في المساجد وحولها، وحرمة الصلاة في المتاحف، وحرمة عرض الجثث الإنسانية (المومياوات) لما فيها من امتهان للإنسان الذي كرمه الله)». وبين كاتبنا السياق الذي تصاعدت فيه هذه التيارات المتشددة بدءا من سبعينيات القرن العشرين، حينما استعان بها السادات لمناهضة خصومه من الناصريين واليساريين، من علامات هذا السياق وقوع الثورة الخومينية في ايران (1979)، وصعود «طالبان» في أفغانستان بعد خروج الاحتلال الشيوعي (1996). وهو السياق الذي انتعشت فيه «جبهة علماء الازهر» بفتاواها التي كفرت رسالة «الفن القصصي في القرآن الكريم» لمحمد أحمد خلف الله، وكفرت حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد، وكفرت جابر عصفور نفسه مؤخرا. كما اتسعت سلطات «مجمع البحوث الإسلامية» بالأزهر، ومصادراته للفكر والفنون والأدب، لا سيما بعد أن منحه مجلس الدولة «حق الضبطية القضائية علي المصنفات الفنية» في منتصف التسعينيات الماضية. وجمود الازهر قديم، إذ يورد كاتبنا حديث أحمد زكي أبي شادي، في الثلاثينيات ، منتقدا الأزهر بقوله : «الأزهر في الوقت الحاضر يمتاز بأنه عش فسيح للرجعية. وبه حالة من الفساد لا تطاق، وكادت تخنق حرية التعبير في مصر». ومع ذلك، لم يخل الأزهر من نماذج مضيئة، أبرزها الشيخ محمد عبده(1849-1905) الذي يعده عصفور مثال «الشيخ المستنير» الذي أعلن أن «الإسلام دين العلم والمدنية» وأيد اقامةجامعة مدنية (جامعة القاهرة) توازي الجامع الأزهر، جازما بأن «الإسلام هدم بناء السلطة الدينية ومحا أثرها حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولارسم». وفي مناظرته مع فرح أنطون، بين الشيخ المستنير أن أصول الإسلام خمسة: النظر العقلي لتحصيل الإيمان، تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض، البعد عن التكفير، والاعتبار بسنن الله في الخلق. وقلب السلطة الدينية. وقد تابع محمد عبده، في النموذج المتفتح، شيوخ وعلماء من أمثال نجيب المطعني، علي عبد الرازق ومصطفي عبد الرازق ومحمود شلتوت وأحمد الطيب (شيخ الأزهر الحالي، الذي يفخر بأن جده كان فنانا وصانعا للتماثيل). روشتة علاج يفحص صاحب «ضد التعصب» في الركن الثالث من «نقد ثقافة التخلف» شعار «الإسلام دين ودولة»، مؤسسا فحصه علي أن الدين الإسلامي كغيره يقوم علي الهدايات العامة والأحكام الكلية، التي لابد أن تغدو مصدرا لا غني عن استلهامه في التشريعات المدنية والقوانين الوضعية، لا تمييز في ذلك بين دين وغيره. في ضوء هذا الفحص يعدد ناقدنا «مخاطر الدولة الدينية» التي تقوم (بكلام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين) علي أن «الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية ومصحف وسيف»، محللا هذا الشعار ليجد أنه : يدعو إلي إقامة دولة دينية، وأن هذه الدولة الدينية تتجاوز القطر الواحد إلي غيره من الاقطار الإسلامية التي تجمعها «الرابطة الدينية» بديلا «للرابطة الوطنية»، ومن ثم يختفي معني «المواطنة» والولاء للوطن حيث يصبح «الدين وطنا»، وهو ما يفرق بين عنصري الأمة: المسلم والمسيحي، ويؤدي إلي إلغاء الرابطة القومية فيغدو المصري أقرب إلي الباكستاني من بني وطنه. كل ذلك معناه عالمية الدعوة بما يؤسس للارهاب الديني علي مستوي المعمورة (كما تجلي في 11 سبتمبر 2001)، وامكان العنف: فالروحانية هي الدعوة، والمصحف هو مرجعها، والسيف هو الأداة القمعية التي تعاقب المتأبين علي الدعوة بالمتفجرات والطائرات. ويقدم كاتبنا، في ختام تحليله الفاحص. ما يشبه «روشته» علاج ناجع للخروج من وهدة ثقافة (وسياسة) التخلف، مؤكدا أننا في مواجهة أخطار تستلزم تغيير الدستور تغييرا جذريا، وتغيير السياسات، وفتح الأبواب لأحزاب مدنية جديدة ودعم الأحزاب القائمة، كما تستلزم حتمية إحداث ثورة جذرية في الإعلام، وفي التعليم بشقيه المدني والديني. ويشدد ناقدنا علي ضرورة أن يحدث هذا الإصلاح الجذري في كل المجالات في وقت متزامن، متواكب مع قيام الدولة بتأكيد الشفافية والقضاء علي الفساد وتدعيم حقوق (وآدمية) الإنسان. كان عصفور يستعيد كتاب أستاذه (وأستاذنا) زكي نجيب محمود «مجتمع جديد أو الكارثة» وهو يوجه إنذاره الأخير : «علينا أن نختار بين التغيير الجذري الذي يقوي معه الأمل في مستقبل واعد، أو ابقاء الأوضاع علي ما هي عليه بما يعجل بالطوفان الذي تنذرنا علامات عديدة بكوارثه المخيفة». لكن السؤال الذي تطرحه علينا روشتة الانقاذ الدقيقة التي يقدمها كاتبنا، هو : من سينفذ هذه الروشتة الشافية؟ هل النظام السياسي الاجتماعي القائم، الذي هو صايغ كل هذه العلل والامراض؟ أم أن هذا الاصلاح الجذري والثورة الشاملة يحتاجان قوي جديدة، وآليات جديدة؟ أي : نظام جديد أو الكارثة.