مجنون.. ويعملها! نحن لا نمر بأزمة سياسية أو اقتصادية.. نحن نمر بأزمة مجتمع يفرغ كل شحنات الغضب والثورة من حكامه.. في مواطنين أبرياء يلقاهم بالمصادفة ويفرغ فيهم طاقات الغضب.. ويسلم نفسه للشرطة! .. كل شخص تلتقي به.. علي أرض مصر.. هذه الأيام هو مشروع مجنون.. وهو لغم تحت قدميك يوشك علي الانفجار بمجرد اللمس. قد يكون قائد السيارة التي تقلك للشركة التي تعمل بها.. أو شريك لك في طابور الطابونة.. أو زوج الشغالة التي تعمل بمنزلك منذ سنوات.. أو حارس العقار الذي تسكنه.. أو «الطيار» الذي يحمل لك سندوتشات الفول والطعمية بالموتوسيكل. أوحتي أقرب الناس إليك.. قد يكون زوجك أو زوجتك.. أو زوج ابنتك.. أو حفيدك.. أو ربما.. ابن سيادتك!. لا تستبعد أحدا.. يا عزيزي.. هذه الأيام.. فأي واحد منهم.. هو «مجنون.. ويعملها»!. ويعملها.. تعني ببساط أن يخرج السلاح الناري أو المدفع الرشاش.. أو المطواة قرن غزال المستوردة من الصين.. ويقوم في لحظة غضب بإخراجك من الحياة الدنيا إلي الآخرة.. خروج السهم من القوس. وتنشر الصحف النبأ في صفحات الحوادث.. ويتوجه الزملاء في أقسام التحقيقات الصحفية.. إلي حيث يعيش القاتل.. في اسطبل عنتر أو الدويقة.. أو عزبة الهجانة أو غيرها من المناطق التي تعج بالسكان والمشاكل.. ويتضح من كلام الجيران أنه رجل طيب.. هادئ.. مستقيم.. ولم يصدر عنه ما يخدش الحياء.. وأنه كان خجولا.. ومنطويا.. ويعرف الله ورسوله.. ويعول سبعة أطفال.. خمسة من زيجات سابقة.. واثنان من زوجته الحالية التي تزوجها منذ عام. ولا تجد الحكومة تفسيرا لما يجري.. وتعتبر كلا منها «حادثا فرديا».. يتكرر في كل أرجاء العالم(!!). فقتل الزملاء في سيارة شركة المقاولون العرب.. حادث فردي. المواطن الذي اعتصم وأبناؤه الثلاثة أمام مجلس الشعب.. اعتراضا علي عدم قبول ابنته بإحدي مدارس شبرا.. ورفض.. فض الاعتصام.. ونصب المشانق وربط عنق كل طفل بحبل ينتهي إلي مشنقه.. تمهيدا لشنق أطفاله. هو حادث فردي وتسمع عن الزوجة الشابة البالغة من العمر 18 التي اتفقت مع زوجها البالغ من العمر 22 سنة علي قتل أبيها داخل شقته بمنطقة الأزاريطة بالإسكندرية، وتسمع أن القتيل طارد زوج ابنته والسكين مغروس في ظهره.. حتي سقط جثة هامدة في الشارع. كان الأب يقوم بإطعام العصافير عندما عاجله زوج ابنته التي تزوجها عرفيا بطعنات من الخلف!. ويقال لك إنه حادث فردي. وتسمع عن انتحار أمين الشرطة هشام المهدي في ميدان المحطة بمدينة أسيوط بإطلاق الرصاص علي رأسه أثناء وقوفه في كمين الشرطة.. وسط أفراد الكمين.. ثم يتضح أن مجهولا أطلق عليه الرصاص أثناء الخدمة.. ويقال لك إنه حادث فردي. وتسمع عن مذيع التليفزيون.. الهادئ.. الخجول الذي أطلق عيارا ناريا علي رأس زوجته إثر مشاجرة بينهما بسبب تأخره في العودة لأنه كان يقرأ نشرة الأخبار، في وقت متأخر. صفعته زوجته فأطاحت بنظارته.. ففتح الدولاب وأخرج مسدسه.. وأطلق علي رأسها عيارا ناريا.. أخرج مخها من الجمجمة.. ورفع السماعة وأبلغ الشرطة.. كيلا يتعرض لانتقام أهل الزوجة صاحبة محل البن الذي كان يحمل اسم القاتل!. وتسمع أنه حادث فردي.. يحدث في كل الدنيا.. ولا دخل للحكومة ولا سياستها في ذلك.. لأنه ليس مطلوبا في ظل أزهي عصور الديمقراطية.. أن تتدخل الحكومة في أمور الرعية العائلية. وتسمع عن سائق الميكروباص.. الهارب من 8 أحكام أحدها بالمؤبد (!!) الذي صدم دراجة بخارية يستقلها نقاش وطفله.. وأصيب الطفل بإصابة بالغة فحمله قائد الميكروباص في عربته بحجة نقله للمستشفي.. وألقي به في طريق الواحات وحده.. حتي لفظ أنفاسه. إنه حادث فردي وتسمع عن قيام 3 عاطلين بضرب صاحب محل ونجله وإلقاء جركن بنزين عليهما وإشعال النيران فيهما بسبب ركن سيارته أمام الجراج الذي يعملون به باليومية، فأحرقوا السيارة وصاحب السيارة وابن صاحب السيارة.. لأنه ركن سيارته أمام الجراج ونقلوا جميعا للمستشفي في حالة خطيرة بين الحياة والموت. إنه حادث فردي لا شأن للحكومة. أما حوادث سقوط سيارات النقل من فوق الكباري العلوية.. والسقوط علي الناس والسيارات السفلية.. فهي من الحوادث المتكررة.. ولم يلفت نظر المسئولين لانشغالهم بتحريك عملية السلام. علما بأن صعود سيارات النقل.. وعربات نقل السياح.. والأتوبيسات.. للكباري العلوي.. من الممنوعات المطلقة في كل دول العالم. لا يسمح علي الإطلاق بصعود السيارات الكبيرة فوق الكباري العلوية التي جري تصميمها لعبور السيارات الصغيرة فقط. نحن لا نهتم.. ولا يلاحظ المارة صراخ السياح الأجانب عندما يلاحظون أن الأتوبيس السياحي يصعد بهم فوق كوبري علوي. ويقال لك إن سقوط السيارات العملاقة من فوق الكباري.. هي حوادث فردية.. ويكفي الحكومة أنها أقامت لنا الكباري وحصل كل صاحب نصيب علي حقه في العمولة. أما المرور.. وتساقط الكباري.. فلا عمولة عليها وبالتالي فهي لا تشغل بال أحد. وتسمع طبعا عن المشاجرة بين القضاة والمحامين.. واستثمار نقيب المحامين للمشاجرة في تأكيد شعبيته.. وتكرار حكاية سفره لألمانيا.. علي نفقة النقابة.. للحصول علي تعويضات من الألمان في قضية السيدة مروة الشربيني. وقيام أحد المحامين.. بالاعتداء بالضرب علي عضو بالنيابة.. ولو كان بيده مدفع رشاش لاستخدمه في الحال.. في واقعة لم تعرفها مصر في تاريخها.. لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن طرفي المعركة المؤسفة تلقيا تعليمهما الجماعي في كلية الحقوق بالمجاني.. ووفق مجانية التعليم التي يتحملها فقراء هذه الأمة.. الآن. لم يشعر أحدهم بالخجل.. وهو يعطل مصالح الناس في المحاكم.. واستخدموا كل وسائل العنف والجنون في صراعهم. والأمثلة علي فقد الناس لأعصابها لأتفه الأسباب.. والتي تطالعنا بها الصحف كل يوم.. لا تقف عند حد. فمظاهر العنف والانفلات التي نلمسها في تعاملاتنا اليومية.. والتي تصل إلي حد القتل واستخدام الأسلحة.. باتت تجري علي كل لسان.. ولا يجد البعض منا وصفا لما نحن عليه سوي جملة «الناس اتجننت»!. ماذا حدث؟ الذي حدث أن الشعب المصري تعرض خلال الثلاثين سنة الأخيرة لسياسات.. كانت أشبه بالتجارب التي يجريها العلماء علي الفئران. العلماء كانوا يجرون تجاربهم علي الفئران.. فإذا تحقق نجاحها طبقت علي البشر.. أما عندنا فقد قام الساسة بتطبيق تجاربهم علينا مباشرة.. وتصدر التوجيهات العليا بإجراء تجربة جديدة.. وفق ما جاء في اعترافات عاطف عبيد.. عندما قال إنه كان يقوم بسياسات غير مسبوقة. وبعد كل تجربة تزداد الأحوال سوءا.. وتتدهور الخدمات.. وتفقد الناس أعصابها.. في المدارس والمواصلات والمستشفيات والشوارع التي تنتزع أرصفتها.. كل سنة.. واختفاء المساحات الخضراء.. وبناء الأبراج في مناطق عشوائية.. واستخدام نواب الشعب مئات الملايين من الجنيهات في عمليات تجميل وزراعة الشعر والتخسيس علي نفقة الدولة.. فيزداد الغل بين البشر، وفقا لما يؤكده العلماء من أن الحيوانات تميل إلي العدوانية إذا زاد تكدسها في مكان واحد.. وفقدت مساحاتها الشاسعة.. وتهددت وسائل حياتها. ويقول الدكتور أحمد عكاشة.. إنه إذا طبقنا هذه النظرية علي البشر.. لوجدنا أن المجتمع الذي يفتقد الحد الأدني في وسائل الحياة الكريمة.. ويفتقد الإحساس بالأمان فإنه يتحول لمجتمع تنتشر فيه العدوانية والأنانية.. ويتحول فيه الإنسان الذي يوصف بالطيب أو الخجول أو المهذب إلي كائن يرتكب أقصي درجات العنف.. في لحظة غضب. ولذلك فإن كل ما نشهده من حوادث.. يري حكامنا وأجهزة إعلامهم أنها حوادث فردية.. هي ليست كذلك. نحن أمام ظاهرة.. تكشف الضغوط النفسية والعصبية التي يتعرض لها المواطن في السنوات الأخيرة.. والمخاوف التي تنتابه إزاء مستقبله ومستقبل أولاده.. ووطنه. المواطن لم يعد آمنا علي غده.. وفقد الثقة في حكامه ويشعر في كل لحظة بالظلم وبالفوارق الاجتماعية الهائلة.. وقبل ذلك يشعر بأنه يعيش في نظام بلا قانون. القانون.. اختياري.. وانتقائي! وفي ظل غياب القانون.. وتوحش الطبقة السياسية الجديدة فقد الشعب ثقته في نفسه وفي حكامه.. وأصبح أكثر استعدادا للانقضاض علي أي خصم.. بريء. وفي ظل غياب مشروع وطني تلتف الأمة حوله.. وفي ظل تضارب السياسات والصراعات حول نهب المال العام فقد المواطن إحساسه بالانتماء.. وأصبحت الأنانية هي السمة السائدة بين الناس.. وبات من الطبيعي أن يفرغ أي مواطن غضبه المكبوت من حكامه.. في زوجته أو زملاء العمل.. أو شريك له يقف معه في طابور الطابونة. نحن لا نمر بأزمة اقتصادية.. أو سياسية.. نحن نمر بأزمة مجتمع يفرغ كل شحنات الغضب والثورة من حكامه.. في مواطنين آخرين يلقاهم بالمصادفة.. ويفرغ فيهم كل طاقات الغضب.. ويسلم نفسه للشرطة. ولذلك فكن.. يا عزيزي علي حذر.. واعتبر كل من تلقاه.. هو مجنون.. ويعملها!.