انتهينا في المقال السابق إلي أن فلاسفة ومفكري عصر الأنوار أفصحوا عن مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وكيف كانت جهودهم في هذا الصدد تتويجا لإسهامات مفكري عصر النهضة الذين حرروا الفرد من إسار اللاهوت الكنسي الذي أفرز الدولة الإمبراطورية الثيوقراطية، وأعلوا من قدر «النزعة الهيومانية» «الإنسانية» بفضل كتابات «سافونارولا» و«دانتي» و«أبيلارد» وغيرهم، بالمثل أسهمت حركة الإصلاح الديني في هدم الأساطير والخرافات وتبني التفكير العقلاني والنزعة العلمانية بما يتسق مع تنامي المد البورجوازي، بفضل جهود «كالفن» و«زونجلي» و«مارتن لوثر» وغيرهم، ولا غرو، فقد اعتبر «ماكس فيبر» حركة الإصلاح الديني تعبيرا عن تعاظم البورجوازية التي تحولت إلي الرأسمالية. بديهي أن يعانق الفكر السياسي – في عصر الأنوار – تلك التحولات الكبري، بصدد مفهوم الدولة المدنية الحديثة المؤسسة لخدمة «الناسوت» بعد هدم صروح «الكهنوت». يعد «جون لوك» صاحب إسهامات مهمة بصدد رؤيته للدولة المدنية الحديثة، إذ طرح قاعدة «العقد الاجتماعي» الذي يجعل الشعوب هي مصدر السلطات إنطلاقا من مبدأ الحرية. وهو مبدأ يتعلق بالاقتصاد والسياسة والدين في آن، بما يعني حرية العمل، وحرية اختيار الحاكم، وحرية الاعتقاد، باعتبار الحرية هي قانون الطبيعة، فربط حرية التملك بما يبذل من عمل، «فعمل الإنسان هو جهده أو نتاج كده، وعمل يديه هو ملك له وحده». أما عن العلاقة بالحاكم، فتكمن أن تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم للحاكم، مقابل أداء واجباته في عملية الضبط الاجتماعي، فإذا ما أخل بشروط العقد فلا مناص من عزله، بل ومحاكمته علي تقصيره. مرجعية الشعب أما القانون، فمرجعيته الشعب إذ هو الضمان لحقوقه، وعلي الحاكم أن يلتزم بما يتضمنه من حقوق وواجبات. بالمثل أسهم المفكرون الفرنسيون في صياغة مفهوم الدولة المدنية الحديثة، إذ أعطي «مونتسكيو» للدولة الحديثة طابعها الديمقراطي، برغم اعتماده النظام الطبقي، إذ رأي أن من صالح الدولة الحديثة الإفادة من خبرات وتجارب الطبقة الأرستقراطية، في مقابل ما تتمتع به من امتيازات، ويحمد له الدعوة إلي مبدأ المساواة، ولذلك حمل حملة شعواء علي ظاهرة الرق، لا لشيء إلا «لأن الناس جميعا ولدوا أحرارا»، كما ندد بالاستبداد، ومال إلي النظام الجمهوري الديمقراطي الذي يعني في تصوره أن السلطة العليا بيد الشعب، كما كان أول من نادي بمبدأ «فصل السلطات»، وربط بين القانون وبين الحرية، فانتهاك القانون يفضي إلي قتل الحرية، وهو الذي قسم السلطة إلي ثلاثة أقسام، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ورأي في الفصل بينهما ضمانا للحرية. أما «جان جاك روسو»، فقد طرح في كتابه «العقد الاجتماعي» مبدأ الحرية باعتبارها حقا طبيعيا للإنسان تؤكده «الديمقراطية المباشرة» علي المستوي السياسي، كما تدعمه المساواة علي الصعيد الاجتماعي، كذا ألح علي حرية الاعتقاد، وحق التعبير عن المعتقد، في هذا الإطار تتحدد مقومات الدولة المدنية التي تنبثق من الشعب مع الاتفاق مع الحاكم علي شروط «العقد الاجتماعي» التي يكون القانون بمثابة ضمان لحقوق وواجبات الطرفين المتعاقدين. ومن ثم يصبح التزام كل منهما بالقانون التزاما حرا وذاتيا، أما صورة الدولة – في نظره – فهي الجمهورية التي يصبح «كل فرد فيها جزء لا يتجزأ من الكل» ومواطنا يشارك في «قوة السيادة» التي يؤطرها القانون، وتلك – باختصار – هي «الديمقراطية المباشرة» التي تجسد «الإرادة العامة». أما المفكر الفرنسي «دي توكفيل»، فكان أول من نبه إلي ما يعرف باسم «طغيان الأغلبية»، إذ يري أن الدولة الديمقراطية – علي النحو السابق – يمكن أن تطيح بمبدأ الحرية، بتحول الأغلبية إلي الديكتاتورية، ذلك أن السلطة المطلقة تغري الأغلبية الحاكمة بالطغيان، حسبما لاحظ بالنسبة للنظام الديمقراطي في الولاياتالمتحدة، لذلك نبه إلي الحذر والحيطة من «الآثار الجانبية» الناجمة عن الانبهار بالديمقراطية. في السياق نفسه، ذهب «جون ستيوارت مل» إلي خطورة المؤسسات الديمقراطية، فضلا عن غوغائية «الرأي العام»، خصوصا في المجتمعات المتخلفة حضاريا، بل يري أن الفرد المتشدق بالحرية نظريا «يمكن أن يكون عدوا لنفسه» بسلوكياته وعاداته غير السوية، لذلك لابد من البحث عن أداة لردعه، حفاظا علي حريات الآخرين. الكرامة الإنسانية في هذا الصدد، قدم الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانت» – الذي تأثر كثيرا بآراء روسو – بعض الأفكار التي تضمن سلامة الديمقراطية. وتتلخص فيما عرف باسم «الأخلاق الكانتية» التي تلح علي مبدأ الكرامة الإنسانية، ويري أن مشكلة «طغيان الأغلبية» لا تحل عن طريق الردع باستنان القوانين، بل بالإلزام الداخلي الذي ينبع من الضمير والعقل معا، وهو أمر يمكن أن يتخلق من خلال العلاقات بين البشر، ويصبح بمثابة قانون مستمد من الفطرة والإرادة ويتنامي مع الممارسات اليومية في التعامل مع أفراد المجتمع. إنجازات العقل أما «ماكس فيبر» فيؤطر مفهومه عن الدولة المدنية الحديثة من خلال تخصصه كمؤرخ وعالم اجتماع، وفي هذا الصدد يستقرئ نشأة الدولة وتطورها التاريخي ليستنتج أمرا ثابتا يشكل قاسما مشتركا، ويتمثل في العقلانية، وحتي الدول المستبدة لا تفتقر في تنظيمها إلي العقل، بغض النظر عن كونها مستبدة، وعقلانيتها تلك «جزئية ومهددة»، أما الدولة الأوروبية الحديثة فكانت نتيجة لتعاظم درجة العقلانية التي يشهد عليها حركة الإصلاح الديني والثورة التجارية ثم الصناعية، ونشأة المدن، ووضع القوانين.. وما شاكل، إذ كلها إنجازات للعقل والعلم التجريبي الذي نقل أوروبا إلي الحداثة، ومن ثم يجعل من العقلانية أساس الدولة الحديثة، رافضا المفهوم الماركسي عن «صراع الطبقات»، ومفهوم «القومية» الذي أخذ به المؤرخون، ومفهوم «القوة» عند «فيختة» و«غرامشي» وغيرهما من الفلاسفة، بل يري في «العقلانية» موهبة واختيارا أوروبيا ميز الحضارة الأوروبية منذ اليونان، تجلي بوضوح في النظم الأوروبية في حقلي الاقتصاد والسياسة، بفضل عبقرية خاصة تمثلت في فن الإدارة، ومن ثم فالدولة الحديثة ما هي إلا أداتها ليس إلا، وهي قوة في حد ذاتها تشكل «المنتظم الاجتماعي» الذي تختلط فيه الأسباب بالنتائج، وإذ شكلت الرأسمالية المناخ العام الذي تخلقت فيه الدولة المدنية الحديثة، فهي في حد ذاتها تعني عقلنة العملية الإنتاجية. ويري عبدالله العروي أن تصور «فيبر» هذا لا يختلف كثيرا عن أطروحة «ماركس»، خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار حكم «فيبر» بأن النظام الاشتراكي نفسه ما هو إلا نتيجة مزيد من العقلانية. وإذ بهر الكثيرون بأطروحة «فيبر»، انطلاقا من بقاء واستمرار «أداة الدولة» في النظام الاشتراكي نفسه، بل وحتي في مستوي القيم وأنظمة التفكير. وعندنا أن هذا الانبهار لا يجد ما يبرره إذا ما أدركنا أن كل الدول التي عرفها التاريخ انطوت علي درجة ما من العقلانية، حسب اعتراف «فيبر» نفسه، من هنا نتساءل: لماذا لم يقدر لعالم الشرق ظهور الدولة المدنية الحديثة؟، خصوصا إذا ما علمنا أن العقل والحضارة الغربية مدينة إلي علوم الشرق التي كانت مرجعية اليونان، كما كان العلم والمنهج التجريبي الذي نقل أوروبا من العصور الوسطي المظلمة إلي أنوار العصر الحديث موروثا عن العقل العربي والحضارة العربية الإسلامية، باعتراف الكثيرين من مفكري الغرب، من أمثال «تويبني» و«ول ديورانت» وغيرهما. تلك – باختصار – مجرد عرض موجز لمفهوم الدولة في الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي الغربي، فماذا عن الواقع التاريخي للدولة الحديثة في أوروبا؟ ذلك هو ما سنعرض له في المقال التالي..