وسط الفوضي العارمة التي تضرب مصر من أدناها إلي أقصاها، نتيجة اختطاف ثورة 25 يناير، واللجاج والصخب بين التيارات السياسية بصدد وضع الدستور، يفاجئنا الإسلامويون بفتح معركة وهمية بين السنة والشيعة!! لم تعرف مصر طوال التاريخ الإسلامي مثل هذه الدعوة المزعومة، إذ عرف المصريون بحب آل البيت ويتسابقون في نيل بركاتهم وزيارة أضرحتهم لحد الساعة، هذا علي الرغم من الحملة الهمجية التي يشنها السلفيون المعاصرون – من أذناب وصنائع الإسلام البدوي المؤزر بالبترو-دولار – ضد زيارة الأضرحة باعتبارها من قبيل الشرك بالله، لقد حكم الفاطميون الشيعة مصر، فبنوا القاهرة التليدة، وأسسوا الأزهر الشريف – أكبر جامعة إسلامية – دون أن تثار قضية الخلاف العقدي بين السنة والشيعة.بل عاش المصريون – في كنف الفاطميين – أزهي عصورهم، بشهادة «كلود كاهن» مؤرخ فرنسا الأشهر، إذ عم الرخاء البلاد والعباد، وحظي المصريون – سنة وشيعة – بالعدل الاجتماعي، وغدا الأزهر الشريف قبلة العلم والثقافة، يختلف إليه العلماء وطلاب العلم من كل بقاع «دار الإسلام». وحديثا، وجد من مشايخ الأزهر وعلماء الدين والفكر الإسلامي الرشيد من اعتبر المذهب الشيعي الجعفري أحد المذاهب الخمسة في الفقه. من هؤلاء.. ننوه بأسماء الشيوخ سليم البشري، ومحمود شلتوت، وأمين الخولي وغيرهم. لذلك، يتساءل المرء عن أسباب إثارة الخلاف السني – الشيعي الآن؟، الإجابة واضحة وبديهية لا تحتمل الاجتهاد، إذا ما أدركنا عدة حقائق.. الأولي، ما تشنه الولاياتالمتحدة والغرب الرأسمالي وإسرائيل من حرب دعائية ضد إيران، توطئة لحرب فعلية، لا لشيء إلا لتحديها سياسة غطرسة القوة الأمريكية، ودفاعها عن القضية الفلسطينية التي تناساها الحكام العرب، فأصبحت «في خبر كان»..!! والأخطر يتمثل في طمس الهوية العربية، ونسخ الفكر القومي بهدم معقله الأخير في سوريا التي تتعرض الآن لغزو إسرائيلي – أمريكي مقنع بستار الثورة الاجتماعية المزعومة، فمن يقاتل النظام التقدمي السوري الحالي ليسوا إلا مرتزقة من المتطرفين والتكفيريين المدعومين بالدولار والسلاح والعتاد الأمريكي والإسرائيلي والتركي المستورد من حلف الأطلنطي، وآخرها، القضاء علي «حزب الله» – في لبنان – انتقاما من الهزيمة الأولي التي حلت بإسرائيل – ومن ورائها – سنة 2006. تحقيق المشروع بتحقيق تلك الأهداف، يمكن أن يتحقق المشروع الصهيوني – الأمريكي في إعادة رسم خريطة «الشرق الأوسط الكبير» في صورة كيانات قزمية إثنية وطائفية، ذلك المشروع الذي خطط له المؤرخ الأمريكي الصهيوني العجوز «برنارد لويس»، الذي يعرف – بحق – مكامن القوة وأماكن الضعف في العالمين العربي والإسلامي، إذ يري أن بنية العالم العربي مؤسسة علي تنوع وثراء عرقي إثني، لحمته الإسلام، ومن أجل هدم هذا البناء، لا مناص من تفريغه من لحمته وذلك بإثارة النزعات الطائفية المذهبية، تمهيدا لحروب أهلية بين أصحاب الملل والنحل بوجه عام، وبين السنة والشيعة علي نحو خاص. كان اندلاع ثورات «الربيع العربي» بمثابة «استجابة» لهذا «التحدي» الأمريكي – الصهيوني، حسب نظرية «أرنولد توينبي» المعروفة، لذلك، جرت محاولات إفشال تلك الثورات، أو علي الأقل تحويل مسارها استنادا إلي القوي «الإسلاموية» العميلة والمصابة بداء «شبق السلطة»، وقد نجح هذا المخطط بالفعل، بعد اعتلاء «حزب النهضة» دست الحكم في تونس، وجماعة الإخوان المسلمين – وأتباعهم من السلفيين والتكفيريين في مصر – ووصولهم – سلميا – إلي السلطة في المغرب. وها هم الآن يشكلون «حكومة الظل» في سوريا بعد إسقاط نظامها القومي – العروبي القائم. وعندنا أن التواصل بين كل تلك التيارات الإسلاموية والولاياتالمتحدة – لتحقيق تلك الأهداف – ليس وليد الحاضر، بل بدأ بعد نجاح الثورة الإيرانية سنة 1979، برغم محاولات إجهاضها عسكريا – الحرب مع العراق بأموال دول الخليج وسلاح الطيران المصري والخبرات والمعلومات الاستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية.. هذا فضلا عن الحصار الاقتصادي إلي الآن. برغم ذلك، نجحت الثورة الإيرانية لتقدم أنموذجا إسلاميا ثوريا حقق مبادئ الإسلام في العدل والمساواة، فضلا عن طفرة كبري في مجالات العلم والمعرفة ومقومات القوة الاقتصادية والعسكرية، لذلك أطلقت مراكز البحث الأمريكية علي التجربة الإيرانية مصطلح Revlutionary Islam «الإسلام الثوري» ومصطلح Neo Islamism «الإسلام الجديد» ولم تتوان عن دراسته وتقديم معلومات للساسة عن كيفية حصاره وقبره إن أمكن، وإذ فشلوا في ذلك، أوحوا إلي عملائهم من «الإسلامويين الجدد» بإثارة غبار حرب دعائية لتكفير الشيعة، وهو ما يجري الآن علي قدم وساق. وحسبنا ما يصرح به شيوخهم – الجهلة بأوليات الإسلام وشريعته الغراء – بأن الشيعة هم أعداء مصر لكونهم كفرة ملاحدة، وليس إسرائيل، لأن اليهود أهل كتاب!!، تماما كما قسموا مسلمي مصر إلي «إسلاميين» ينافحون عن الإسلام، في مواجهة «العلمانيين» الكفرة. اختلافات ثانوية وقد سبق لنا – في مؤلفات عديدة – دحض تلك المزاعم والافتراءات، ولا أقل من تقديم إشارات تثبت أن الشيعة مسلمون موحدون يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤدون مناسك الحج، كذا إثبات أن الفقه الإثني عشري لا يختلف البتة عن الفقه السني إلا في ست عشرة مسألة فرعية ليس إلا، بينما الخلاف بين مذاهب السنة الأربعة في الكثير من المسائل يعد بالمئات، بل ربما بالآلاف. وليعلم فقهاء «الإسلامويين الجدد» أن الإمامين مالك وأباحنيفة أخذا الفقه عن الإمام الشيعي الإثنا عشري «جعفر الصادق» الذي كان أعلم علماء عصره، ليس فقط في العلوم الدينية فحسب، بل في العلوم الدنيوية أيضا، وحسبنا أن الكيميائي «جابر بن حيان» أخذ علمه علي يد الإمام جعفر الصادق أيضا، هل يعلمون – أيضا – أن الإمامين مالك وأبا حنيفة قد دعيا الرعية للتنصل من بيعتهم لأبي جعفر المنصور العباسي، ومبايعة محمد النفس الذكية العلوي، علي أساس قولهما: «لقد بايعتم – المنصور – مكرهين، وليس علي مكره يمين». خلاف سياسي إن الخلاف بين السنة والشيعة ليس عقديا أو فقهيا بقدر ما هو خلاف سياسي مشروع، إذ تجمع فرق الشيعة أن «الإمامة» في آل البيت، بينما يراها السنة في قريش، بل كان ظهور الفرق مرتبطا – لذلك – بالصراع حول مسألة الخلافة، ولم تنكر الزيدية خلافتي أبي بكر وعمر وفقا لمبدأ «جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل»، أما ما يشاع عن سب الشيعة لهما، فأمر مبالغ فيه، وحسبنا أن الإمام علي بن أبي طالب بايعهما علي الطاعة وكان لهما ناصحا ومشيرا، أما عن ظاهرة السب العلني، فقد كانت قاسما مشتركا بين الشيعة والسنة إبان أحداث «الفتنة الكبري»، وفي ذلك يقول «المسعودي»: بأنه «جري تبادل السباب والشتائم والضرب بالمقارع ونعال السيوف حتي بين الرجل وابنه والأخ وشقيقه». ولا يتسع المقام لدحض ما يثار من مزاعم بصدد «مصحف فاطمة» و«زواج المتعة» وادعاء الشيعة «عصمة الأئمة».. إلي غير ذلك من الترهات فهو أمر قاصر علي العوام ليس إلا، فقرآن الشيعة إلا «مصحف عثمان» وزواج المتعة كان مباحا في زمن ما، وحسب ظروف خاصة، والقول بالعصمة – لا يعني عصمة الأنبياء – بل راجع إلي ما اتسم به الأئمة العلويون بالورع والتقوي، وحسبنا ما جاء بالقرآن الكريم «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»، وفي هذا الصدد يقرأ المسلمون كافة في صلاتهم «اللهم صلي علي محمد وعلي آل محمد». أما عن علم الأئمة فحدث ولا حرج، فهم ورثة علم «علي بن أبي طالب» الذي نعته الرسول – صلي الله عليه وسلم – في حديث شريف: «أنا مدينة العلم، وعلي بابها». وعن التشيع يقول المرحوم الأستاذ العقاد: «إذ ذكر التشيع، ذكرت الفضائل من الجهاد والاستشهاد، والعدالة والمعرفة»، وفي ذلك، يري ابن خلدون أن معظم علماء المسلمين في المعارف الدينية والدنيوية كانوا من الشيعة والمعتزلة. وحسبنا أن «السرخسي» – الشيعي – كان أول من كتب في «علم السياسة»، والحسن بن الهيثم – الذي اكتشف المنهج العلمي التجريبي – كان شيعيا إسماعيليا، بل إن الشيعة الإسماعيلية هم الذين أعطوا الفلسفة اليونانية طابعها الإسلامي، كما كان الإدريسي – الذي رسم أول خريطة للعالم – علويا. لذلك كله – وغيره كثير – نري أن الشيعة مسلمون موحدون، وأن دعاوي تكفيرهم ليست إلا كفرا، كما ذهب الإمام الغزالي «حجة الإسلام»، وأن تلك الدعاوي من نسج خيال الإسلامويين المعاصرين تلقوها من مخزون «الإسرائيليات»، ليسهموا – بوعي أو بدونه – في تنفيذ المخطط الأمريكي – الصهيوني.