التعليم: القيادة السياسية وجهت بالاهتمام بالجوانب الشخصية للطلاب    ميناء دمياط تستقبل 12 سفينة محملة ب 48154 طن قمح وأخشاب    محتجز إسرائيلي بغزة: «نتنياهو وحكومته يبحثان عنا لقتلنا وإعادتنا جثثا»    اتحاد الكرة يعلن عقوبة محمد الشيبي    غرق شاب في شاطئ «شهر العسل» غرب الإسكندرية    ضبط عنصر شديد الخطورة بحوزته «أر بي جي» وقذائف وبنادق    هذه معالم فشل سياسة السيسي بإدارة ملف الكهرباء والوقود    رئيس مياه قنا يتفقد مزارع الجبلاو الجديدة لاستغلال مياه الصرف المعالج    بسبب أكلة سمك.. نقل صافيناز للمستشفى بعد تعرضها لحالة تسمم حاد    «يا حرامي الأغاني».. رضا البحراوي في مرمى نيران ابن شعبان عبد الرحيم | فيديوجراف    ما تأثير انتقال «كوكب الحظ» إلى برج الجوزاء على كافة الأبراج؟.. خبيرة فلك تجيب    «السرب» يحافظ على الصدارة.. ننشر إيرادات السينما المصرية    فصائل فلسطينية: استهدفنا قوة إسرائيلية تحصنت داخل منزل وأوقعنا أفرادها    رفع 61 حالة إشغال بالسوق السياحي في أسوان (تفاصيل)    رئيس جامعة كفر الشيخ يترأس لجنة اختيار عميد «طب الفم والأسنان»    محلل سياسي: الصين تتفق مع مصر في ضرورة الضغط لإنهاء حرب غزة    الاتحاد الأوروبي يدعو إسرائيل لوقف حملتها على الأونروا وعدم تصنيفها «منظمة إرهابية»    بريطانيا: نشعر بقلق من مقترحات إسرائيل بفرض قيود على أموال الفلسطينيين    للعاملين بالخارج.. 5 مميزات لخدمة الحوالات الفورية من البنك الأهلي    رياض محرز يرد على استبعاده من قائمة الجزائر في تصفيات كأس العالم 2026    بعد تصدرها التريند.. حقيقة انفصال أحمد خالد صالح وهنادي مهنا    هل يجوز الجمع بين العقيقة والأضحية؟.. الإفتاء تحسم الجدل    «بيت الزكاة والصدقات»: صرف 500 جنيه إضافية مع الإعانة الشهرية لمستحقي الدعم الشهري لشهر يونيو    «عيوب الأضحية».. الأزهر للفتوى يوضح علامات يجب خلو الأضاحي منها    الصحة: تقديم الخدمات العلاجية ل 145 ألف مواطن بالمجان من خلال القوافل الطبية خلال شهر    الصحة: تقدم 4 آلاف خدمة طبية مجانية في مجال طب نفس المسنين    مطروح: توقيع بروتوكول تعاون مع المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية    «مُنع تصنيعه في مصر».. ما هو عقار GHB الذي استخدمه سفاح التجمع لتخدير ضحاياه؟    مواهب دوري المحترفين على رادار الأهلي خلال الميركاتو الصيفي    مبان مفخخة.. كمائن المقاومة الفلسطينية تُكبد جيش الاحتلال خسائر كبيرة    مصدر مقرب من حسين الشحات يكشف ل في الجول خطوة اللاعب بعد حُكم الشيبي    استفسارات المواطنين حول موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وإجازات العمل    علي معلول يرفض التأهيل في الخارج بعد عملية وتر أكيليس    الخط الثالث للمترو يعلن تقليل أوقات انتظار القطارات حتى عيد الأضحى    قبل عيد الأضحى.. تعرف على مواعيد القطارات VIP والروسية "القاهرة/أسوان" بمحطة سوهاج    اهتمام متزايد بموعد إجازة عيد الأضحى 2024 على محرك جوجل    وضع حجر أساس إنشاء مبنى جديد لهيئة قضايا الدولة ببنها    وزير الري يتابع ترتيبات عقد أسبوع القاهرة السابع للمياه وأسبوع المياه الإفريقي    «التضامن»: طفرة غير مسبوقة في دعم ورعاية ذوي الإعاقة نتيجة للإرادة السياسية الداعمة (تفاصيل)    مدبولي: الدولة تعمل على توفير مختلف الأدوية والمستلزمات الطبية    سول: كوريا الشمالية أطلقت نحو 10 صواريخ باليستية قصيرة المدى    الشامي : موقف رمضان صبحي صعب بسبب المنشطات    فرق الدفاع المدنى الفلسطينى تكافح للسيطرة على حريق كبير فى البيرة بالضفة الغربية    الحبس عام لنجم مسلسل «حضرة المتهم أبيّ» بتهمة تعاطي المخدرات    ما حكم صيام العشر الأوائل من شهر ذى الحجة؟ دار الافتاء تجيب    منتخب كولومبيا يبدأ الاستعداد لكوبا أمريكا ب10 لاعبين    من حقك تعرف.. إهمالك لأولادك جريمة.. ما هى عقوبتها؟    الدفاع المدني بغزة: الاحتلال دمر مئات المنازل في مخيم جباليا شمال القطاع    التعليم العالي: مصر تشارك في الاجتماع الأول للمؤسسة الإفريقية للتعلم مدى الحياة بالمغرب    رئيس هيئة الرعاية الصحية يجري جولة تفقدية داخل مدينة الدواء.. صور    الصحة: القوافل الطبية قدمت خدماتها العلاجية ل 145 ألف مواطن بالمحافظات خلال شهر    «المستقلين الجدد»: تكريم «القاهرة الإخبارية» يؤكد جدارتها وتميّزها    سيد معوض: لست مؤيدًا لفكرة عودة أشرف بن شرقي للدوري المصري    نقابة الأطباء البيطريين: لا مساس بإعانات الأعضاء    أسعار الدواء بعد رفع سعر رغيف الخبز المدعم.. 40% زيادة    عاجل:- قوات الاحتلال تقتحم مدن الضفة الغربية    وزير الخارجية: الصين تدعم وقف إطلاق النار فى غزة وإدخال المساعدات للفلسطينيين    الإفتاء توضح حكم التأخر في توزيع التركة بخلاف رغبة بعض الورثة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما تحجبه الشللية (قراءة في رواية ماكيت القاهرة)
نشر في الأهالي يوم 09 - 08 - 2023

أمَر أحد الأباطرة برسم خريطة مُفصَّلة لإمبراطوريته تغطي مساحتها بدقة، فكانت النتيجة أن جاءت الخريطة في حجم مساحة الإمبراطورية تماماً، حيث غدت الخريطة هي الأرض وحلت محلها؛ فصارت النسخة هي الأصل.
الحكاية للأديب الأرجنتيني "بورخيس"، وقد استخدمها المفكر الفرنسي "جان بودريار"، أحد منظّري ما بعد الحداثة، مثالاً على أطروحته التي مفادها أن العالم الافتراضي قد ابتلع الواقع وصار خالقه. هذا الواقع لم يمتلك يوماً حقيقةً ما يمكن معرفتها، وبالتالي العالم الافتراضي الزائف لا يمكن مقاومته وهزيمته لصالح حقيقةٍ ما غير موجودة أصلاً. من هنا تنطلق رواية "ماكيت القاهرة" للكاتب "طارق إمام"، حيث الالتباس هو الحقيقة الوحيدة؛ إذ يبتلع الماكيت المصطنَع المدينة الواقعية. انصهرت تلك الفكرة ما بعد الحداثية وتجمدت في كل عناصر الرواية؛ فالأسماء المستعارة لشخصيات الرواية قد ابتلعت أسماءهم الحقيقية، وهم ليسوا شخصيات بل نماذج مصغرة في الماكيت. جريمة قتل افتراضية تخلق حقيقة: طفل يصوب إصبعه على والده متظاهراً بإطلاق النار عليه؛ فتخرج من إصبعه رصاصة حقيقية تقتل الوالد، ثم نكتشف أن من قتله الطفل ليس بوالده، وأن والده الحقيقي شبح في مرآة أمه. معاشرة جنسية افتراضية تولّد حقيقة: تمارس الأم الجنس مع شبح المرآة؛ فتحمل منه، ثم تتزوج "رجلاً حقيقياً" ليكون أباً مادياً لابن الخطيئة الافتراضية. تنتهي الرواية بهزيمة الجميع أمام الزيف والاصطناع؛ فالبشر زائفون والعالم مصطنع والواقع لا يمكن معرفته؛ وبالتالي لا يمكن تغييره؛ ظهر ذلك في محاولات الأبطال الفاشلة للتحرر من الماكيت قبل النهاية.
يقول الكاتب الفرنسي "جيروم فيراري": "الخيال لا يناقض الواقع؛ بل يُطهّره (بالمعنى الكيميائي) ويجعله واضحاً مرئياً". في ضوء تلك العبارة من الممكن أن نقرأ الخيال في "ماكيت القاهرة" وفي رواية "التحول" لكافكا؛ فتحوُّل البطل إلى حشرة يوضح حقيقة انمساخ الإنسان واغترابه عن المجتمع. بينما الخيال في ماكيت القاهرة لا يجلي حقيقة واقعية بل يهدف إلى بطلان الواقع، ولا أجد تعريفاً للخيالات غير المؤسسة على الواقع، التي تستهدف الالتباس لا الإجلاء، سوى الهلوسة.
اكتفى "كافكا" في "التحول" بحدث فانتازي واحد ليبني عليه عمله؛ لكن "ماكيت القاهرة" تجاوز فيها الخيال حدود الفانتازيا إلى درجة الهلوسة. لم يسفر ازدحام الرواية بكل تلك الهلوسات إلا عن فكرة واحدة: الواقع المصطنع المبتلع للواقع الحقيقي. ادعى فلاسفة ما بعد الحداثة أن الالتباس المتعمد في الكتابة يولّد عدداً كبيراً من الأفكار؛ بينما نجد في تلك الرواية عدداً كبيراً من الالتباسات لا يولّد إلا فكرة واحدة.
تتحكم في العوالم المصطنعة داخل الرواية شخصية "المسز"، العالمة بكل شيء، رمز الشمولية، التي لا يظهر منها إلا النصف الأعلى، الجالسة على مكتب طوال الرواية.. فهي رئيسة العالم المصطنع، خالقته التي لا تخضع لزيفه. إنها رؤية ميتافيزيقية نمطية للسلطة قد نجدها عند رجل الشارع الذي لن يقرأ تلك الرواية.
وكذلك خرجت عبارات المصحف من شمولية الاصطناع في الرواية، إذ عمل "بلياردو" رسام الشارع، في فترة من حياته بتذهيب عبارات المصحف في المساجد، ونقرأ في الرواية أنه "كان يرش توقيعه حين ينتهي كما يفعل في أي شغلانة، ثم يذهب، مرة بعد فترة، لأداء صلاة كاذبة، ودائماً كان يكتشف أن اسمه المُبتدَع قد أُزيل من تحت كلام الله". هناك حقيقتان إذن قد أفلتا من شمولية الزيف وهما: "كلام الله" و"السلطة". لكننا لا نعلم مبررات سعي "بلياردو" لأداء "صلاة كاذبة" في المساجد التي عمل بها، ولا نعلم شيئاً عن "المسز"، وهي الشخصية الوحيدة الفاعلة في الرواية، مما أدى إلى تنميطها كرمزاً للسلطة. لقد أُغفِل المبرر الدرامي لصالح الفكرة والرمز، إن الأفكار هي عظام العمل الأدبي المضمرة بدماء الأسلوب، المكسوة بلحم اللغة وعضلات البناء الأدبي، والكاتب – رغم تعمد الالتباس -باستخدامه المفرط لآلة العصف الذهني الحادة؛ جرح جسد الرواية جرحاً أبرز عظامها.
ذلك يؤكد تبعية الرواية لكتابات ما بعد الحداثة؛ إذ تتجلى هنا خاصية مميزة لها وهي "محو الفواصل بين الأنواع الأدبية وأنواع الخطاب الأخرى"، وإذا كان "جيل دولوز" أراد كتابة تاريخ الفلسفة في هيئة رواية؛ ف "ماكيت القاهرة" هي رواية في هيئة كتاب فلسفي، زاخر بالجمل الفكرية الملتبسة المعقدة دون إضافة تُذكر، به هوامش، وتعقيب بعد النهاية. وأيضاً استُخدمت في الرواية أداة السخرية ما بعد الحداثية ثقيلة الظل – على طريقة شارب الموناليزا الذي رسمه "دوشامب" – في أسماء مثل "منسي عجرم" و"ليونيل مرسي".
أهم وظائف الالتباس في تنظيرات ما بعد الحداثة ما قاله "رولان بارت"؛ إذ أوضح أن وضوح الكتابة صفة "طبقية"، أي أن الكاتب الواضح هو ممثل لوعي طبقة محددة. الالتباس إذن – في نظره – أداة محررة للنص من تمثيل طبقة معينة، وكلما زاد الالتباس وتفاقمت عدم القابلية للقراءة؛ تحرر النص من الطبقية، وزادت قدرته على الإيحاء واغتنت دلالاته. هل حقق الالتباس في "ماكيت القاهرة" ما قاله "بارت"؟
رَصَد "طارق إمام" نفسية طبقة البرجوازية الصغيرة، بما تحمله من تردد وخوف من التورط، من خلال شخصية "أوريجا"، في مشهد توقيعه لعقد العمل في الماكيت على مكتب "المسز". كما أنه رصد الهبوط الطبقي الذي حدث لأوريجا وهو شاب يعيش في عام 2045، مما يجلي توقعات لأحوال تلك الطبقة الوسطى، إضافة إلى حنين أفرادها إلى فن ما قبل الثورة (أغاني حميد الشاعري)، ومخاوفهم من انتهاء مدينة القاهرة وتحويلها إلى مدينة كباري موصلة إلى العاصمة الجديدة. إنَّ الرواية تمثل تلك الطبقة رغم الالتباس الذي قال "بارت" إنه يعلو بالنص عن التمثيل الطبقي. هل انتهى المجتمع الطبقي كما انتهى التاريخ وسقطت الإيديولوجيات، حسب ادعاءات ما بعد الحداثة، كي يتخلص النص من الطبقية؟ إن ذلك يؤكد صدق عبارة "جورج لوكاش": "كلما كان صراع الطبقات ظاهراً في المجتمع تخفَّى من الأدب البرجوازي"، فالالتباس ما بعد الحداثي ليس حيلة لتعديد الدلالات؛ بل حيلة لإخفاء الصراع الطبقي، ومضمون الرواية ما بعد الحداثي، الذي يقول باستحالة المعرفة، ومن ثم استحالة التغيير، يمثل إيديولوجيا البرجوازية الصغيرة المحافظة على الأوضاع مهما بدت ثورية. لكن الوقائع عنيدة وتنعكس في الأدب رغم الالتباس. ورغم تشاؤم رواية ماكيت القاهرة بخصوص إمكان معرفة العالم وتغييره، ورغم تعمد الالتباس؛ إلا أن تشيؤ الإنسان في الرأسمالية المتأخرة ينعكس فيها بجلاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.