أمَر أحد الأباطرة برسم خريطة مُفصَّلة لإمبراطوريته تغطي مساحتها بدقة، فكانت النتيجة أن جاءت الخريطة في حجم مساحة الإمبراطورية تماماً، حيث غدت الخريطة هي الأرض وحلت محلها؛ فصارت النسخة هي الأصل. الحكاية للأديب الأرجنتيني "بورخيس"، وقد استخدمها المفكر الفرنسي "جان بودريار"، أحد منظّري ما بعد الحداثة، مثالاً على أطروحته التي مفادها أن العالم الافتراضي قد ابتلع الواقع وصار خالقه. هذا الواقع لم يمتلك يوماً حقيقةً ما يمكن معرفتها، وبالتالي العالم الافتراضي الزائف لا يمكن مقاومته وهزيمته لصالح حقيقةٍ ما غير موجودة أصلاً. من هنا تنطلق رواية "ماكيت القاهرة" للكاتب "طارق إمام"، حيث الالتباس هو الحقيقة الوحيدة؛ إذ يبتلع الماكيت المصطنَع المدينة الواقعية. انصهرت تلك الفكرة ما بعد الحداثية وتجمدت في كل عناصر الرواية؛ فالأسماء المستعارة لشخصيات الرواية قد ابتلعت أسماءهم الحقيقية، وهم ليسوا شخصيات بل نماذج مصغرة في الماكيت. جريمة قتل افتراضية تخلق حقيقة: طفل يصوب إصبعه على والده متظاهراً بإطلاق النار عليه؛ فتخرج من إصبعه رصاصة حقيقية تقتل الوالد، ثم نكتشف أن من قتله الطفل ليس بوالده، وأن والده الحقيقي شبح في مرآة أمه. معاشرة جنسية افتراضية تولّد حقيقة: تمارس الأم الجنس مع شبح المرآة؛ فتحمل منه، ثم تتزوج "رجلاً حقيقياً" ليكون أباً مادياً لابن الخطيئة الافتراضية. تنتهي الرواية بهزيمة الجميع أمام الزيف والاصطناع؛ فالبشر زائفون والعالم مصطنع والواقع لا يمكن معرفته؛ وبالتالي لا يمكن تغييره؛ ظهر ذلك في محاولات الأبطال الفاشلة للتحرر من الماكيت قبل النهاية. يقول الكاتب الفرنسي "جيروم فيراري": "الخيال لا يناقض الواقع؛ بل يُطهّره (بالمعنى الكيميائي) ويجعله واضحاً مرئياً". في ضوء تلك العبارة من الممكن أن نقرأ الخيال في "ماكيت القاهرة" وفي رواية "التحول" لكافكا؛ فتحوُّل البطل إلى حشرة يوضح حقيقة انمساخ الإنسان واغترابه عن المجتمع. بينما الخيال في ماكيت القاهرة لا يجلي حقيقة واقعية بل يهدف إلى بطلان الواقع، ولا أجد تعريفاً للخيالات غير المؤسسة على الواقع، التي تستهدف الالتباس لا الإجلاء، سوى الهلوسة. اكتفى "كافكا" في "التحول" بحدث فانتازي واحد ليبني عليه عمله؛ لكن "ماكيت القاهرة" تجاوز فيها الخيال حدود الفانتازيا إلى درجة الهلوسة. لم يسفر ازدحام الرواية بكل تلك الهلوسات إلا عن فكرة واحدة: الواقع المصطنع المبتلع للواقع الحقيقي. ادعى فلاسفة ما بعد الحداثة أن الالتباس المتعمد في الكتابة يولّد عدداً كبيراً من الأفكار؛ بينما نجد في تلك الرواية عدداً كبيراً من الالتباسات لا يولّد إلا فكرة واحدة. تتحكم في العوالم المصطنعة داخل الرواية شخصية "المسز"، العالمة بكل شيء، رمز الشمولية، التي لا يظهر منها إلا النصف الأعلى، الجالسة على مكتب طوال الرواية.. فهي رئيسة العالم المصطنع، خالقته التي لا تخضع لزيفه. إنها رؤية ميتافيزيقية نمطية للسلطة قد نجدها عند رجل الشارع الذي لن يقرأ تلك الرواية. وكذلك خرجت عبارات المصحف من شمولية الاصطناع في الرواية، إذ عمل "بلياردو" رسام الشارع، في فترة من حياته بتذهيب عبارات المصحف في المساجد، ونقرأ في الرواية أنه "كان يرش توقيعه حين ينتهي كما يفعل في أي شغلانة، ثم يذهب، مرة بعد فترة، لأداء صلاة كاذبة، ودائماً كان يكتشف أن اسمه المُبتدَع قد أُزيل من تحت كلام الله". هناك حقيقتان إذن قد أفلتا من شمولية الزيف وهما: "كلام الله" و"السلطة". لكننا لا نعلم مبررات سعي "بلياردو" لأداء "صلاة كاذبة" في المساجد التي عمل بها، ولا نعلم شيئاً عن "المسز"، وهي الشخصية الوحيدة الفاعلة في الرواية، مما أدى إلى تنميطها كرمزاً للسلطة. لقد أُغفِل المبرر الدرامي لصالح الفكرة والرمز، إن الأفكار هي عظام العمل الأدبي المضمرة بدماء الأسلوب، المكسوة بلحم اللغة وعضلات البناء الأدبي، والكاتب – رغم تعمد الالتباس -باستخدامه المفرط لآلة العصف الذهني الحادة؛ جرح جسد الرواية جرحاً أبرز عظامها. ذلك يؤكد تبعية الرواية لكتابات ما بعد الحداثة؛ إذ تتجلى هنا خاصية مميزة لها وهي "محو الفواصل بين الأنواع الأدبية وأنواع الخطاب الأخرى"، وإذا كان "جيل دولوز" أراد كتابة تاريخ الفلسفة في هيئة رواية؛ ف "ماكيت القاهرة" هي رواية في هيئة كتاب فلسفي، زاخر بالجمل الفكرية الملتبسة المعقدة دون إضافة تُذكر، به هوامش، وتعقيب بعد النهاية. وأيضاً استُخدمت في الرواية أداة السخرية ما بعد الحداثية ثقيلة الظل – على طريقة شارب الموناليزا الذي رسمه "دوشامب" – في أسماء مثل "منسي عجرم" و"ليونيل مرسي". أهم وظائف الالتباس في تنظيرات ما بعد الحداثة ما قاله "رولان بارت"؛ إذ أوضح أن وضوح الكتابة صفة "طبقية"، أي أن الكاتب الواضح هو ممثل لوعي طبقة محددة. الالتباس إذن – في نظره – أداة محررة للنص من تمثيل طبقة معينة، وكلما زاد الالتباس وتفاقمت عدم القابلية للقراءة؛ تحرر النص من الطبقية، وزادت قدرته على الإيحاء واغتنت دلالاته. هل حقق الالتباس في "ماكيت القاهرة" ما قاله "بارت"؟ رَصَد "طارق إمام" نفسية طبقة البرجوازية الصغيرة، بما تحمله من تردد وخوف من التورط، من خلال شخصية "أوريجا"، في مشهد توقيعه لعقد العمل في الماكيت على مكتب "المسز". كما أنه رصد الهبوط الطبقي الذي حدث لأوريجا وهو شاب يعيش في عام 2045، مما يجلي توقعات لأحوال تلك الطبقة الوسطى، إضافة إلى حنين أفرادها إلى فن ما قبل الثورة (أغاني حميد الشاعري)، ومخاوفهم من انتهاء مدينة القاهرة وتحويلها إلى مدينة كباري موصلة إلى العاصمة الجديدة. إنَّ الرواية تمثل تلك الطبقة رغم الالتباس الذي قال "بارت" إنه يعلو بالنص عن التمثيل الطبقي. هل انتهى المجتمع الطبقي كما انتهى التاريخ وسقطت الإيديولوجيات، حسب ادعاءات ما بعد الحداثة، كي يتخلص النص من الطبقية؟ إن ذلك يؤكد صدق عبارة "جورج لوكاش": "كلما كان صراع الطبقات ظاهراً في المجتمع تخفَّى من الأدب البرجوازي"، فالالتباس ما بعد الحداثي ليس حيلة لتعديد الدلالات؛ بل حيلة لإخفاء الصراع الطبقي، ومضمون الرواية ما بعد الحداثي، الذي يقول باستحالة المعرفة، ومن ثم استحالة التغيير، يمثل إيديولوجيا البرجوازية الصغيرة المحافظة على الأوضاع مهما بدت ثورية. لكن الوقائع عنيدة وتنعكس في الأدب رغم الالتباس. ورغم تشاؤم رواية ماكيت القاهرة بخصوص إمكان معرفة العالم وتغييره، ورغم تعمد الالتباس؛ إلا أن تشيؤ الإنسان في الرأسمالية المتأخرة ينعكس فيها بجلاء.