هو "فاروق الأول"، ملك مصر، الذي حاز هذا اللقب بعد مباراة فاصلة، مع ملك العالم الإسباني في الشطرنج، استمرت ثلاثة أيام بالتليفون. لم يشتهر "فاروق" بحبه للعبة الشطرنج المعتمدة على الذكاء والتركيز والصبر؛ بل بحبه للمقامرة القائمة على الحظ والكسب السريع. لكن الأديب "سليمان فياض" في قصة "كل الملوك يموتون"، وهي القصة الأخيرة في مجموعة "وبعدنا الطوفان"، جعله ملك العالم في الشطرنج إضافة إلى كونه ملكاً لمصر. ورغم أنه ملك العالم في الشطرنج، إلا أنه ليس ملك مصر في الشطرنج. فمن ملك مصر في الشطرنج إذن؟ هو "البري الدريني"، طالب بالصف الثالث الثانوي بمعهد الزقازيق الديني، شاب ينتمي للطبقة الوسطى الريفية؛ فأبوه يملك أرضاً صغيرة، ويهدده بطرده من الطبقة الوسطى وتحويله إلى فلاح في أرضه، وكذلك بطرد أمه من استقرار الأسرة المتوسطة وتطليقها؛ إذا لم يسهم في الصعود الطبقي لأسرته، أو يعفيهم من مصروفاته، بنجاحه في الدراسة. طرد "فاروق" أخاه من الحياة بإرساله لحرب فلسطين بسلاحٍ فاسد. تنقل من احتراف الفتونة وكرة القدم ثم استقر في احتراف الشطرنج، لم يهزمه أحد في مصر، في مرة لاعَبَ عشرة لاعبين في الوقت نفسه، وهزمهم في ساعتين، وحدد لكل منهم بكم نقلة سيموت ملكه ولم يخطئ قط. لا تستند مهارته الفائقة في الشطرنج على المذاكرة وحفظ الخطط وفهم رموز خانات الرقعة وأرقامها؛ فهو لا يفهمها "ومن يفهم المعادلات الجبرية هذه؟" – إنما تستند مهارته على الخبرة والأحلام والإلهام؛ فالذين يهزمهم يحفظون الخطط ويفهمون الرموز، أما هو فقد منحته الرقعة أسرارها جميعاً وخططها الممكنة كلها، إذ يلعب عقله الخفي في أوقات راحته؛ فتأتي إليه الرقعة في أحلامه ويلعب أدواراً واضحة بخطط تميت كل الملوك، على أنه عندما يلعب في يقظته ينسى كل الخطط التي لعب بها في نومه، ويترك إلهامه يمده بواحدة منها مناسبة فور بداية اللعب. يسكن "البري" في غرفة مع اثنين من زملائه في المعهد وجلسائه في المقهى: "هلال" و"صلاح"، يسخر من مساعي كليهما؛ إذ يسعى "هلال" ليكون مبعوثاً في أدغال إفريقيا ويتعلم الفرنسية لذلك، ويسعى "صلاح" ليكون أستاذاً في كلية العلوم بالجامعة بعد أن يحصل على شهادته من المعهد الديني الذي أجبره أبوه على الدراسة فيه، بينما يحلم " البري" بالسفر في العالم والكتب؛ فقلبه يشرب الدنيا. لكن زميليه يتجاهلان سخريته ويقولان له، على إعجابهما بمهاراته، إن مسعاه هذا لا يطعم خبزاً. للآن يسأل كثيرون: هل ينبغي للأديب أن يسجل الواقع في أعماله وأن يكون لأدبه دور واقعي اجتماعي؟ أم ينبغي له أن يتسامى بأدبه عن الواقع التاريخي والاجتماعي ويعلو لسماوات المتعة الجمالية فقط؟ لكن الأديب "سليمان فياض" قد تجاوز في قصته تلك الإشكالية ببراعة؛ إذ تناول الواقع في فترة تاريخية معينة دون أن تتدنى القصة لتكون مجرد أداة تسجيل لتلك الفترة، وفي الوقت نفسه حقق للقارئ متعة جمالية لم تتعالى على الواقع لكنها تعلو به وتسمو بعلاقة القارئ به. من أهم الأدوات التي حقق بها الأديب تلك المعادلة الصعبة هي مناقشة الواقع التاريخي الاجتماعي بالعالم الخيالي والعالم الرمزي؛ فقد تناول فترة حكم الملك فاروق بوضع خبر مُتخيَّل عن حصوله على لقب "ملك العالم في الشطرنج" بعد انتصاره على بطل العالم الإسباني، وغيَّر نهاية حكمه الواقعية، التي حدثت بثورة الضباط الأحرار، وجعلها تنتهي بموته في مصر دون ثورة تنفيه ليموت في إيطاليا، لكنه جسَّد فترة حكمه الفاسدة في بطل القصة "البري"، الذي وجه حديثاً داخلياً ساخطاً إلى صورته في المقهى، وأراد أن يلاعبه بعد فوزه على البطل الإسباني لينتقم منه، إذ قال لصاحبيه: " بعد أن أنتقم، سأعتزل هذه اللعبة؛ فقد حققت هدفي منها العام والخاص معاً". لقد حوَّل "سليمان فياض" معارضة فاروق السياسية في الواقع إلى حديث ساخط داخلي رمزي وُجّه إلى صورته، وحوَّل هزيمته الواقعية، التي تمت بالثورة، إلى رغبة عند "البري" في هزيمته الرمزية في الشطرنج. يرسل "البري" إليه خطاباً يطلب فيه أن يلاعبه، يجلس في المقهى ثلاثة أيام دون نوم ليتدرب قبل المباراة، وأثناء التدريب يسمع مع رواد المقهى خبر وفاة الملك في الراديو. مهزومٌ هو "البري"، لا يعرف أن ينجح في الواقع بأدوات نجاحه في الشطرنج: الخبرة والأحلام والإلهام؛ فيعوض خسارته الواقعية بانتصاراته في اللعب. إن الملك فاروق هو خصم "البري" اللدود؛ فقد هزمه في الواقع، وهو وقد عجز عن قتل الملك في الواقع؛ أراد أن يقتل ملك الملك في الشطرنج. كل رواد المقهى الذي يجلس فيه يعوضون هزيمتهم الواقعية بانتصارات رمزية في الشطرنج والطاولة؛ "أكثر من مهموم تستعبده الرقاع، وتلغي من رأسه كل الهموم، إلا هماً واحداً، يدق له القلب ويدوي صداه في الأذنين" وهو تعويض الهزيمة في الواقع بالانتصار الرمزي في اللعب. من يعشق السينما الأوروبية سيستحضر عند قراءة تلك القصة فيلم "الختم السابع" للمخرج السويدي "إنجمار برجمان"، فهو فيلم عن مباراة شطرنج طويلة يلعبها البطل طوال الفيلم مع الموت متجسداً في شخص عابس، ويُهزَم البطل في النهاية. وفي القصة مباراتان يلعبهما البطل، واحدة في البداية وأخرى في النهاية، مع شخص اسمه "عباس"، وهو اسمٌ على مسمى؛ فقد كان عابساً في المرتين اللتين ظهر فيهما في القصة، لكن "البري" سيهزمه في المباراتين. لعب "البري" في حياته ألف مباراة شطرنج لم يهزم فيهم، ورغم ذلك كان قلبه يدق بعنف في المباراتين. عندما هُزِمَ "عباس" في المباراة الأولى؛ غادر مسرعاً غير مبتسم. وفي الثانية يتفق معه "البري" على أن يعتزل المهزوم اللعب للأبد، يلاعبه البري بعد ثلاثة أيام دون نوم كان يتدرب فيهما قبل مباراته مع الملك فاروق، وأثناء اللعب يُذاع خبر وفاة الملك، أراد "البري" أن ينسحب بعد سماع الخبر، لكن "عباس" رفض، استجاب له "البري" ثم هزمه، غادر "عباس" المقهى مبتسماً هذه المرة رغم هزيمته. ثم قال "البري": " كل الملوك يموتون إلا ملكاً واحداً"، يسأله صاحباه: "من؟"، يقول: "هذا لغزي"، ويسقط من فوق كرسيه سقوطاً يحل اللغز بلا فائدة؛ فقد مات قبل أن يعرف أن "عباس" هو الملك الوحيد اللا منهزم: الموت، وأن فوزه الرمزي عليه لم يحل دون اعتزاله اللعب للأبد.