عاتبتنى الصديقة الدكتورة "عواطف عبد الرحمن" على ما ورد فى مقالى فى هذه الزاوية الأسبوع الماضى،عن مستقبل نقابة الصحفيين،لأننى كما قالت قد اختزلت معركة الصحفيين الباسلة التى امتدت لنحو عام من أجل إسقاط القانون 93 لسنة 1995 الذى فرض مزيدا من القيود على حريات الرأى والتعبير، فى مجرد موقف النقيب "إبراهيم نافع "المساند للصحفيين .ومع أن ما ورد فى المقالة بعيد عن ذلك الظن والدليل أنها نصت على مايلى "نجح الصحفيون بقيادة مجلس النقابة، الذى كان يرأسه النقيب الهمام إبراهيم نافع فى حشد الرأى العام فى مصر وخارجها، لمساندة مطلبهم بإسقاط القانون .ونُسب للنقيب إبراهم نافع القول -والعهدة فى ذلك تعود إلى الدكتور عبد المنعم سعيد –على جثتى أن يمر ذلك القانون .وكان إنضمام النقيب إلى صفوف الصحفيين، وقطاعات واسعة من الرأى العام ، استشعرت خطرا ليس على مستقبل حرية الصحافة فحسب، بل أيضا على مستقبل التطور السلمى الديمقراطى فى البلاد، أحد العوامل الرئيسية ، التى ساهمت فى إسقاطه ". القصد، أن أى معركة لكى تحقق الهدف الذى ترنو إليه، فلابد لها من قيادة . وكانت القيادة فى تلك المعركة، مجلس نقابة الصحفيين برئاسة النقيب، الذى لو كان قد انقسم بين مؤيد ومعارض للقانون، لطالت الأزمة والمدة التى انتهت بإسقاطه .والنقيب" إبراهيم نافع" حين وُضع فى موقف الاختيار بين الولاء للحزب الحاكم الذى ينتمى إليه، ويعد أحد أبرز نجومه، وبين المهنة ، اختار الانتماء لمهنته، وهذه فضيلة تحسب له .فضلا عن أنه شكل لجنة من باحثين فى مركز دراسات الأهرام وقيادات حزبية وقانونية ونقابية وأكاديمية من المعارضين لصدور ذلك القانون لإدارة الأزمة، وتقديم مشروع قانون بديل يصون حريات الصحافة والرأى والتعبير.وكان ذلك ماحدث بالفعل بصدور القانون 96 لسنة 1996بشأن تنظيم الصحافة، الذى يحظر مصادرة الصحف أو تعطيلها، أو فرض رقابة عليها، ويضمن تدفق المعلومات أمام المصادر الصحفية، ويصون أمن الصحفى الذى ينشر معلومات صحيحة، ويعاقب من يعتدى على كرامته ويحاسبه كمن يعتدى على الموظف العمومى، ويمنع فصله تعسفيا من عمله دون اخطار النقابة، وغير ذلك من نصوص توفر مناخا مواتيا لممارسة حريات الرأى والتعبير دون قيود . هل العودة للتذكير بهذا التاريخ وتلك المعركة تستهدف تزجية الوقت وتسلية القارئ ؟ بالقطع لا . فالعبرة ،أن وحدة الجماعة الصحفية ووعيها بمصالحها ، ومصالح المجتمع الذى تعبر عنه ،هى الطريق الوحيد لتحقيق تلك الأهداف . وفى عهد حكومة الدكتور شريف إسماعيل تشكلت اللجنة الوطنية للإعداد لتشريعات الصحافة والإعلام التى أعدت مشروعى قانونى تنظيم الصحافة والإعلام، وإلغاء العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر تنفيذا لاستحقاق دستورى. وتم عقد عدة جلسات مشتركة بين اللجنة الوطنية وبين ممثلى الحكومة، انتهت إلى التوافق على نصوصه . لكن البيروقراطية المصرية العتيدة نجحت فى ركنه فى أضابيرها ،إلى أن دخل للنقاش فى مجلس النواب ليخرج شيئا مغايرا فيما عُرف بالقانون 180 لسنة 2018 ،الذى ألغى القانون 96 لسنة 1996 بما ينطوى عليه من مكاسب تعزز حريات الصحافة، وأكثر من الالتزمات المفروضة على الصحفى والصحيفة ، ووضع نصوصا غائمة عن منع الحبس فى قضايا النشر، لم تنفذ حتى اليوم .وأرفقه بالقانون 179 لسنة 2018 الذى انصب على تشكيل الهيئة الوطنية للصحافة، التى تعمل فى سياق توجيهات من السلطات التنفيذية واقتصرت مهامها على عمل إجرائى،لا علاقة له بالمفاهيم المتعارف عليها، التى يقتضيها العمل على تحرر وسائل الإعلام واستقلالها ! اصطلح خبراء الصحافة والإعلام على أن حرية الصحافة، ليست شأنا يخص الصحفيين وحدهم، أو من يصدرون الصحف أو يكتبون فيها، بل هى ضرورة لصالح المجتمعات والشعوب، بما تقوم به من دور فى الرقابة الشعبية على السلطات التنفيذية، لتحقيق التوازن الاجتماعى بين الحكام والمحكومين .فإذا ما انتفى هذا الدور الرقابى، نصبح ما نحن عليه الآن : إعلام رسمى يغرد بكل وسائطه بصوت واحد ورأى واحد، ولا يمل من الرتابة والتكرار، ولا يهتم بعزوف الناس عنه مقروءا ومسموعا ومشاهدا، وذهابهم إلى غيره ، لمعرفة حقيقة مايجرى فى بلدهم ، وهو المناخ الذى تشغى فيه الشائعات وتعم مشاعر السخط والإحباط ، التى تبذل السلطات التنفيذية جهدا لتكذيبها، فلا تجد من يصغى إليها ! حريات الصحافة والإعلام والرأى والتعبير، ليست ترفا ترومه الجماعة الصحفية، لأن على رأسها ريشة، كما يجرى التلاسن بحقها، من قبل الخائفين من الحرية والمحرضين على العصف بها ، بل ضمانا للاستقرار الاجتماعى ومكافحة الفساد بالتصدى لكل من تسول له نفسه الاعتداء على المال العام والتربح منه . وعلى مائدة الحوار الوطنى مشاريع قوانين تستهدف التوصل إلى ذلك، بينها الفصل بين من يترشحون لموقع النقيب، وبين كل من يتولون سلطات تنفيذية فى الصحف قومية أو خاصة . واستقلال الصحف القومية ووسائل الإعلام الرسمية عن السلطة التنفيذية، والفصل بين ملكيتها وإدارتها .وانهاء التضارب فى القوانين بما يجعل الغاء العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر وجوبيا، وأن تكون الأغلبية فى مجالس إدارات الصحف والجمعيات العمومية لها ولوسائل الإعلام الرسمية من الصحفيين والإداريين، وليس للمعينين من قبل السلطة التنفيذية. ويخطئ من يظن أن تجاهل تلك الاقتراحات الضامنة لكل أشكال الاستقرار، يمكن أن يساعد فى تحقيق مطلب دستورى يقضى ببناء مصر دولة ديمقراطية مدنية حديثة!.