سقوط أساليب العقاب الجماعي والقسوة المفرطة عند مواجهة الإهمال والتسيب اضطر د. أحمد زكي بدر وزير التعليم للتراجع بشكل جزئي عن استخدام القسوة المفرطة والعقوبات القاسية في أعقاب زيارته لمدرسة الخلفاء الراشدين بحلوان وما أثارته من حملة انتقادات لأساليب العقاب الجماعي والمساس بكرامة وهيبة المعلمين، فلا يمكن أبدا تحقيق الانضباط والالتزام في مؤسسات تعاني من الإهمال والتسيب لفترات طويلة بضربة واحدة تطيح بالجميع، ولا يمكن أيضا ضبط أداء القيادات والمعلمين بإطلاق عبارات السخرية والاستهزاء وأوصاف المهانة التي تحط من شأن مؤسسات التعليم بوصف المدرسة بأنها «مزبلة» كما أن تسجيل كلمات الوزير وألفاظه وعقوباته الفورية علي «سيديهات» وتوزيعها علي الفضائيات لعرض تفاصيل حملة الوزير بالمدرسة علي الهواء «بشوكها» أثار حفيظة الكثيرين ضد الوزير الذي انفلت منه الحسم والحزم المعروف عنه إلي انتقام وتعسف أمام أضواء كاميرات التصوير. لا أحد ينكر حاجة مؤسسات التعليم الملحة للضبط والربط والمحاسبة إلا أن المبالغة في استعراض القوة والقدرة يأتي غالبا بنتائج عكسية خاصة في مواقع اعتادت الفوضي وعدم المحاسبة، فقد تسببت العقوبات الجماعية بنقل جميع المدرسين والعاملين بمدرسة الخلفاء الراشدين وتوبيخ مدير المدرسة علي مرأي ومسمع التلاميذ والمعلمين في تجميع التلاميذ والمدرسين للتظاهر ضد الوزير والاعتراض علي قراراته، بل إن خالد بهي الدين نقيب المعلمين بحلوان ألمح إلي احتمال الاتجاه لجمع توقيعات للمطالبة بإلغاء العقوبات حال إصرار الوزير عليها، فضلا عن أنه من الناحية العملية لا يمكن نقل مدرسة بكاملها، بدليل عدم صدور قرارات تنفيذية بالنقل إلا لعشرة مدرسين فقط من إجمالي العاملين والمدرسين البالغ عددهم حوالي 110 بالمدرسة، لأن نقل جميع العاملين بالمدرسة يؤدي حتما لارتباك العملية التعليمية وعدم انتظام الدراسة حسبما اعترف د. أحمد زكي بدر ذات نفسه بذلك مؤكدا عدم معقولية النقل الجماعي دفعة واحدة.. فيما يبدو فإن اندفاع الوزير في «موقعة» حلوان، والتسرع في توقيع العقوبات وما صاحبه من المساس بكرامة المعلمين وما ترتب علي ذلك من حالة هياج بالمدرسة بالتظاهر والاحتجاج في وقت يعاني فيه النظام الحاكم من كثرة الاحتجاجات والاعتصامات، دفعت «دوائر مسئولة» لتوجيه رسائل مباشرة وغير مباشرة للوزير ليتوقف عن إثارة المعلمين والعاملين وإحداث قلاقل داخل المؤسسة التعليمية التي تضم أكثر من مليون ونصف المليون من المعلمين والإداريين يتعاملون مع حوالي 17 مليون تلميذ بمراحل التعليم قبل الجامعي، يعني العملية مش ناقصة احتجاجات داخل المدارس قد تتصاعد خاصة في توقيت يستعد فيه الحزب الحاكم لخوض انتخابات مجلس الشوري ومجلس الشعب، ولا داعي إطلاقا لزيادة حالة الاحتقان مع تفاقم الأوضاع الداخلية وتصاعد الحراك السياسي. ضغوط للتراجع الرسائل غير المباشرة التي وصلت للوزير ليكف عن إثارة المشاكل والزوابع جاءت عبر وسائل الإعلام من خلال عدد من البرامج بالقنوات الفضائية الخاصة وحتي الحكومية، حيث تناولت هذه البرامج الحملة علي مدرسة حلوان بالانتقادات والسخرية من الأساليب العسكرية التي لا تصلح في مؤسسات تربوية، ووصف ما حدث وكأن الوزير يؤدي دورا في مسرحية «مدرسة المشاغبين» ووصل الأمر لقمته في مواجهة فضائية تعرض خلالها الوزير لمحاولات عديدة لإحراجه بأنه لواء أو جنرال يدير وزارة التعليم، وغيرها من العبارات غير المعتادة التي تربط بين تصرفات الوزير وسلوكيات والده اللواء زكي بدر وزير الداخلية الأسبق مثل: «اللي خلف لم يمت» بل التنبؤ بأنه سيخرج من الوزارة في أول تغيير وزاري في إشارة واضحة لتعمد إنذار الوزير وتحذيره من مغبة تصرفاته القاسية، كلها عبارات غير معتادة في مواجهة وزير في الحكومة ببرامج القنوات الخاصة التي تراعي التوازن وعدم الاندفاع في توجيه الانتقادات خاصة عند استضافة كبار المسئولين. طلب للعفو والصفح أما الرسائل المباشرة للسيطرة علي اندفاع الوزير وإيجاد مخرج له ليعيد حساباته ويتراجع ولو جزئيا عن عقوباته فقد جاءت عن طريق د. سيد مشعل وزير الإنتاج الحربي وعضو مجلس الشعب عن دائرة حلوان، فقد اصطحب د. سيد مشعل جميع المعلمين والعاملين بالمدرسة ومديرها في أتوبيسات وزارة الإنتاج الحربي وذهب بهم إلي وزارة التعليم يوم «الأربعاء» الماضي ليطلب العفو والصفح من د. أحمد زكي بدر اعترف وزير الإنتاج الحربي بوجود أخطاء وسلبيات بمدرسة الخلفاء الراشدين، وأكد في اللقاء الذي عقد بقاعة الاحتفالات بالوزارة علي الحق الكامل لوزير التعليم في ضبط إيقاع المنظومة التعليمية، بالتفتيش المفاجيء مثلما يحدث في القوات المسلحة، مشيرا إلي النشأة العسكرية لوزير التعليم وتصرفاته العسكرية التي يجب أن يعتاد عليها العاملون بالمؤسسة التعليمية، طالبا العفو متعهدا برفع مستوي أداء المدرسة قائلا لوزير التعليم: «ابقي تعال حاسبني أنا»، ثم توالت كلمات نقيب المعلمين بحلوان، والحسيني الجندي عضو مجلس الأمناء، وسعيد عمارة مدير مديرية التعليم بحلوان، يستنكرون السلبيات والإهمال بالمدرسة ويؤيدون ما قام به الوزير، ويعترفون بالخطأ، ويطلبون العفو والسماح. تراجع عن القرار لم يجد وزير التعليم مفرا من «الرسالة» واضحة المعالم سوي الاستجابة والتراجع عن تنفيذ قرار النقل الجماعي، بإيقاف إصدار القرارات التنفيذية لنقل باقي المعلمين والعاملين، ولحفظ ماء الوجه طلب من المعلمين الذين صدرت لهم قرارات تنفيذية بالنقل وعددهم (10) فقط بالتنفيذ وتسلم العمل بالأماكن المنقولين إليها، وذلك لحين قيامه بزيارة أخري للمدرسة قريبا وتخفيف العقوبات في حالة تحسن الأوضاع وانضباط العملية التعليمية، لم يدع د. سيد مشعل فرصة لوزير التعليم للتفكير والتدبير، ودفعه للتراجع مما يعني عدم الثبات علي الموقف والسقوط في أول اختبار.. الأمر الذي يؤثر بلا شك علي مصداقية الوزير وقدرته علي مواجهة التسيب والإهمال، وهي النتائج المتوقعة لانتهاج أساليب البطش والقسوة المفرطة، بحسب مسئول كبير بوزارة التعليم قال ل «الأهالي» باستياء: «سيد مشعل رمي نفسه علي الوزير». القسوة لا تفيد ما يشير إلي تعمد توجيه الرسائل غير المباشرة عن طريق وسائل الإعلام والرسائل المباشرة بتحرك د. سيد مشعل الذي لم يحدث من فراغ هو إقدام وزير التعليم في اليوم التالي مباشرة لزيارة سيد مشعل علي القيام بجولة أخري للمدارس تختلف كلية عن جولة حلوان، فإذا كانت جولة تفقد مدارس حلوان شهدت استعراضا للقوة والعقوبات القاسية، فإن الجولة التالية التي قام بها الوزير يوم «الخميس» الماضي حفلت بالهدوء والتفاهم بل وصرف المكافآت، الأمر الذي يؤكد استيعاب الدرس ووصول رسائل التحذير والتجاوب معها، لذلك لم يكن غريبا أن تشمل الجولة الأخيرة المرور علي المدارس المشاركة في مشروع تطوير مائة مدرسة الذي ترعه السيدة سوزان مبارك بمدينة السلام والنهضة، ومتابعة مدرسة أخري تقع في دائرة النائب د. زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية، فالرد علي «الرسائل» جاء بسرعة وتجاوب منقطع النظير. رغم حالة الهرج التي سادت مدرسة الأميرية الإعدادية بدائرة حي الزيتون، وحالة الهياج التي انتابت التلاميذ فور دخول الوزير من باب المدرسة، وتصاعد الصياح من داخل الفصول، لدرجة جعلت الوزير يقول: «إحنا في سوق الخميس»، ورغم وقوف مدير المدرسة محمد فودة مرتبكا بجوار الوزير لا يعرف ماذا يفعل للسيطرة علي الأوضاع إلا أن الوزير تعامل بهدوء فيما يشبه الاستسلام للأمر الواقع، حتي عندما تبين ارتفاع نسبة الغياب التي وصلت إلي 50% في بعض الفصول، وفبركة تقارير الإنجاز للطلاب ونقل الأبحاث من علي الإنترنت، وعدم تواجد العدد الكافي من مدرسي اللغة الإنجليزية، لم تتحرك منظومة العقوبات ولم يبد الوزير اهتماما سوي توجيه بعض الملاحظات والتحذيرات. أما في مدرسة الخلفاء الراشدين الابتدائية بمدينة السلام المشاركة في مشروع السيدة سوزان مبارك حيث تم تطوير المدرسة بالتكنولوجيا الحديثة وتزويد الفصول بأجهزة الكمبيوتر، وصور لوزير التعليم يتوسط الرئيس مبارك والسيدة سوزان مبارك.. فقد قرر الوزير في نهاية جولته بالمدرسة صرف مكافأة مالية تعادل شهرا، استكمل الوزير الجولة بمتابعة الدراسة بمدارس هدي شعراوي الإعدادية ومدرسة سوزان مبارك الثانوية بمدينة السلام ومدرسة عبيدة بن الجراح الإعدادية بمدينة النهضة، وكلها مدارس تابعة لمشروع التطوير الذي تتبناه السيدة سوزان مبارك، لتنتهي الجولة دون عقوبات أو جزاءات أو إهانات. المدارس تحتاج إلي الحزم بعد تفشي الإهمال، والمؤسسة التعليمية تتطلب الحسم بعد انتشار التسيب واللامبالاة.. لكن استعراض القوة والإفراط في القسوة ليس هو الحل.