منذ اللحظة الأولي لوصول الرسول صلي الله عليه وسلم وصحبه إلي يثرب بدأ في تكوين الدولة الإسلامية وإرساء الأساس لها. أقام حكومة في يثرب بعد أن انتقل إليها جيشها وممثلوها ودعاتها. والأهم أنه وحَّد بين المهاجرين أولاً كذلك أخي بينهم وبين الأنصار مؤاخاة النسب وهذا إن دل علي شيء إنما يدل علي حنكة رسول الله صلي الله عليه وسلم في القيادة وأنه قائد من طراز فريد. فلقد أظهر الرسول صلي الله عليه وسلم في قيادته للمجتمع الجديد في يثرب مواهب سياسية وخبرة عميقة. فاتسمت تنظيمات الرسول صلي الله عليه وسلم في يثرب بالقدرة الفائقة علي الجمع بين التخطيط والتنفيذ. واستهل صلي الله عليه وسلم خطواته الأولي في يثرب بإقرار نظام الدولة والقانون بدلاً من القبيلة والعرف وجعل الدين والعقيدة أساساً لجميع المسلمين من مهاجرين وأنصار في دولة يري أفرادها في دينهم الجديد رباطاً وثيقاً. أشد قوة من رباط القبيلة ودعم الرسول صلي الله عليه وسلم هذا بالإخاء بين المهاجرين أولاً ثم بين المهاجرين والأنصار. حكمة الإخاء يقول الشيخ عبدالمنعم عبدالعزيز إمام وخطيب بأوقاف القليوبية: دعوة الإخاء التي يسلكها النبي لم تكن شعارات من شاء من المسلمين ولكنها دعوة ملزمة لجميع أفراد المجتمع الإسلامي. ولقد راعي النبي بحكمته ظروف المجتمع الجديد في تحقيق هذا الإخاء. كما راعي الفقراء والضعفاء والأغنياء والشرفاء كما راعي أيضاً ظروف المهاجرين الذين تركوا أرضهم وديارهم إلي أرض أخري ليست لهم فيها أي أعمال. وبالتالي فإن كل هذا كان يدعو لفرض مبدأ يدعو إلي التآخي بين أفراد المجتمع الجديد يقوي الروابط وينتشل الضعيف ويأخذ بيد المظلوم ويرد الظالم ويقطع الطريق علي الطامعين وينشر الاستقرار والأمن داخل المجتمع. من هنا كان لابد من الأخذ بهذا المبدأ الذي لو ساد في مجتمع لحقق له كل ما يصبوا إليه. شعائر واحدة أكد أن الشعائر التي فرضها الإسلام علي المسلمين واحدة فهم مطالبون بأداء شعائر واحدة حيث يتجهون في صلاتهم إلي قبلة واحدة ويعبدون رباً واحداً ويحجون إلي بيت واحد فبعد هذه الوحدة كان لابد من أن يقويها تطبيق فردي يأخذ بيد الأفراد فتجعلهم يداً واحدة وينكر كل واحد منهم ذاته ويؤثر غيره علي نفسه ومن هنا جاء المبدأ النبوي "تآخوا في الله اثنين اثنين". وبدأ صلي الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين قبل الهجرة علي الحق والمواساة فقد أخي بين أبي بكر وعمر وبين حمزة وزيد بن حارثة. وبين عثمان وعبدالرحمن بن عوف. وبين الزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود وبين عبيد بن الحارث وبلال وبين علي بن أبي طالب ونفسه صلي الله عليه وسلم حيث قال له: أما ترضي أن أكون أخاك؟! قال: بلي يا رسول الله رضيت قال صلي الله عليه وسلم: فأنت أخي في الدنيا والآخرة.. وإن كان البعض قد أنكر هذه المؤاخاة بين المهاجرين. إلا أن الحافظ بن حجر رحمه الله ذكر هذه المؤاخاة وقال: "إن بعض المهاجرين كان أقوي من بعض بالمال والعشيرة فأخي بين الأعلي والأدني ليستعين الأعلي بالأدني وليأخذ الأقوي بيد الضعيف. وعلي أي حال فإن السفر في الصحراء الشاسعة والطريق المخيف يحتاج مثل هذه المؤاخاة والانتقال إلي المجتمع الجديد وهو مكان غريب بالنسبة لهم أيضاً يحتاج هذه المؤاخاة لمقابلة ما قد يعترضهم من ظروف تلم بهم فيكونون يداً واحدة. إخاء المهاجرين والأنصار يحكي الشيخ أحمد سامي إمام وخطيب بأوقاف القاهرة الجديدة قصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فيقول: لما قدم رسول الله صلي الله عليه وسلم المدينة آخي بين المهاجرين والأنصار. آخي بينهم مؤاخاة يتوارثون بها بعد الممات دون ذوي الأرحام وكانوا تسعين رجلاً. خمسة وأربعون من المهاجرين. وخمسة وأربعون من الأنصار كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته. كانت هذه المؤاخاة قبل غزوة بدر فلما كانت غزوة بدر أنزل الله تعالي: "وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض" انقطعت هذه المؤاخاة في الميراث ورجع كل مسلم إلي نسبه الأصلي. جاء في سيرة بن هشام أن النبي صلي الله عليه وسلم أخي بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فكان جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين. وأبوبكر الصديق رضي الله تعالي عنه وخارجة بن زهير الخزرجي أخوين. وكان أبوعبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعتبان بن مالك أخوين. وكان حمزة بن عبدالمطلب عم رسول الله صلي الله عليه وسلم وزيد بن حارثة مولي رسول الله صلي الله عليه وسلم أخوين. وكان عثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين وكان عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان كاتم أسرار الرسول أخوين. هذه الأسماء ليست علي سبيل الحصر وإنما هي بعض ما ذكره الرواة. غرس الطمأنينة أما عن الهدف من إرساء مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار يقول الشيخ أحمد جاد مدير عام بأوقاف القليوبية: إن المؤاخاة كانت من أجل إدخال نوع من الطمأنينة عند المهاجرين بأن كل واحد منهم صار له أخ في المدينة الجديدة فيذهب الوحشة من القلوب التي تركت الأهل والوطن والمال وآثروا الله ورسوله علي ما عداهم. هذا من ناحية المهاجرين أما من ناحية الأنصار فقد أريد بهذا الإخاء لهم أن يأنسوا بالدين الجديد وبصفة عامة فقد استهدف هذا الإخاء تقوية الرابطة بين الأفراد جميعاً عن طريق هذا المبدأ الذي وقع بينهم. وبهذا وجد المهاجرون في مهجرهم الجديد أخوة لهم. آووهم ونصروهم وقدموا لهم المال والمتاع في إيثار لم يعرف التاريخ له مثيلاً: "ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" فلما كانت أموال بني النضير التي غنمها الرسول بغير حرب فدعاهم وأثني عليهم وشكرهم علي ما قدموا من البذل والإيواء والنصرة ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون علي ما هم عليه من السكني في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم. فأجاب سعد بن عبادة يقول بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله فقال صلي الله عليه وسلم اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار إنه موقف يندر أن يحدث في زماننا هذا فيه كل الحب والإيثار وهو يؤكد علي مر التاريخ أن رابطة العقيدة أقوي من رابطة الدم والنسب والوطن. ولذلك فقد سجل القرآن هذا الموقف الرائع في سورة الحشر حين قال: "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأؤلئك هم المفلحون". ثلاث دعائم يشير الشيخ أيمن كامل إمام وخطيب بأوقاف العبور إلي أن النبي صلي الله عليه وسلم أقام المجتمع الجديد علي أسس ثلاثة لابد منها لقيام رسالته صلة الأمة بالله. صلة الأمة بعضها ببعض. وصلة الأمة بمن لا يدينون بدينها. أما صلة الأمة بالله فقد تحققت من خلال بناء المسجد النبوي الشريف لتقام فيه شعائر الإسلام ولتقام فيه الصلوات التي تربط الأمة بعضها ببعض ليكون منارة يتعلم منها الناس. أما صلة الأمة بعضها ببعض فقد تحققت من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والتي من خلالها ذابت كل العصبيات الجاهلية وسقطت فوارق النسب واللون والوطن وأصبحت الإخوة في الإسلام وبالإسلام وجعلت الرجل من الأنصار يتنازل عن ملكه وبيته لأخيه ابتغاء مرضاة الله. أما صلة الأمة بالأجانب عنها ممن لا يدينون بدينها فإن النبي صلي الله عليه وسلم قد شن في ذلك قوانين للتعامل مع هؤلاء بالإخاء والحق والتماسك والتسامح وبالعدل رسمت أعظم القوانين وبذلك استقرت الأوضاع في المدينة ووجد المسلمون متسعاً لتجديد قواهم وترتيب شئونهم.