من الدروس التي ينبغي أن نتعلمها من الهجرة النبوية المباركة التخصص ففي ليلة الهجرة خطط صلي الله عليه وسلم وأعد لكل أمر عدته. ووزع الأدوار علي من يستطيعون أداءها فاختار الصديق صديقا للرحلة وبحث عن دليل خبير بالطرق. فاستعان بعبدالله بن أريقط. وهو رجل علي الشرك. إلا أنه ثقة وأمين. ويعرف الطرق ووعورتها معرفة تامة. ويثق فيه الإنسان المصاحب له في الطريق. وعلي بن أبي طالب تخصصه أن ينام في فراش النبي صلي الله عليه وسلم ويرد الأمانات والودائع إلي أهلها وأسماء وعائشة تخصصهما طبخ الطعام وتجهيزه وعبدالله بن أبي بكر تخصصه أن يأتيهما بالطعام في الغار ويرجع من عندهما بسحر. فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيهم. فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه. حتي يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. وعامر بن فهيرة تخصصه أن يعفي آثار أقدام الفرس التي يركبها عبدالله بن أبي بكر برعي الغنم عليها حتي تتلاشي الآثار وهكذا ولذلك نجحت الهجرة ونحن في حاجة ماسة إلي التخصص في كل مجالات الحياة. كي تستقيم طبيعة الحياة مع متطلبات الواقع وإذا نظرنا إلي واقعنا الذي نعيشه نري أن الله تعالي أول من دعا إلي التخصص فلقد خلق الله عز وجل الملائكة وجعل كل منهم متخصصاً في مهنة أو وظيفة فجبريل ينزل بالوحي وميكائيل موكل بالمَطَر و إسرافيل موكل بالنفخ في الصور و مالك خازن النار ورضوان خازن الجنة والكتبة الكرام تسجيل أعمال الإنسان وملك الموت موكل بقبض أرواحهم و منكر ونكير يسألان العبد في القبر وهكذا وكذلك خلق الله عز وجل كل عضو في الإنسان وله وظيفته. وتخصصه الذي يؤديه في الجسد. فالعين تخصصها الإبصار. والأذن تخصصها السمع. وهكذا. وإذا تتبعنا حديث القرآن الكريم عن صفات الأنبياء. نري تخصيصا لكل منهم بخاصية اختص فسيدنا آدم عليه السلام خليفة الله وسيدنا إبراهيم عليه السلام خليل الله"واتخذ الله إبراهيم خليلا". وسيدنا موسي عليه السلام كليم الله "وكلم الله موسي تكليما" وسيدنا عيسي عليه السلام كلمة الله وسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم حبيب الله فعندما خرج عليه الصلاة والسلام علي بعض الصحابة وسمعهم يتذاكرون خصوصيات بعض النبيين فقال قائلهم ادم خليفة الله وقال الثاني إبراهيم خليل الله وقال الثالث موسي كليم الله وقال الرابع عيسي كلمه الله فخرج النبي صلي الله عليه وسلم وقال قد سمعت ما قلتم آدم خليفة الله وهذا حق وإبراهيم خليل الله وهذا حق وموسي كليم الله وهذا حق وعيسي كلمه الله وهذا حق ألا واني حبيب الله ولا فخر ألا واني حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر ألا واني أول من يحرك حلق الجنة فيدخلها وأمته ولا فخر ألا واني أكرم الأولين والآخرين علي الله يوم القيامة ولا فخر". وحتي في المعجزات كان لكل نبي ما يخصه من المعجزات. بما يتناسب مع بيئة قومه وتفكيرهم. فنبي الله موسي عليه السلام انتشر في قومه السحر والسحرة. فكانت معجزته من جنس ما برع فيه قومه وهو السحر بحيث يلقي سيدنا موسي عصاه فتنقلب ثعبانا يسعي أمام أعين الناس.قال تعالي"وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَي "17" قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَي غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَي "18" قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَي "19" فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةى تَسْعَي "20" قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَي "21" الآيات من سورة طه. ونبي الله عيسي وجد في بيئة ازدهر في عهدهم الطب. فكان من معجزاته التي اختص بها وَيُبْرِئُ الأكمه وهو الذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلا. وقيل بالعكس وقيل: هو الذي يولد أعمي وَيُبْرِئُ الأبرص وهو الذي في جلده برص وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية ويدعو الموتي فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته. وإرادته ومشيئته كما قال تعالي "وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَي بِإِذْنِي" "المائدة: 110" وسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بعثه ربه في زمن الفصحاء والبلغاء وفطاحل الشعراء. فأتاهم بمعجزات كثيرة من أفضلها القران الكريم الذي اختص به دون غيره وهكذا كل معجزات أنبياء الله ورسله إلي أقوامهم تجد فيها تخصيصا لكل واحد منهم بخاصية تميزه عن غيره والتَّخصص أيضا موجود في جوانب المعرفة والعلوم . وليس أدل علي ذلك من قوله تعالي: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةي مِنْهُمْ طَائِفَةى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" "التوبة:122".فقد دلت هذه الآية علي أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء. ولا أن يكون كل الناس حكّاماً ولا أن يكون كلهم مجاهدين. ولا أن يكونوا كلهم فلاحين أو دارسين أو غير ذلك فلابد من نفير طائفة للتخصص في وظيفة من الوظائف وهي في هذه الحالة التفقه في الدين والعلم بأحكامه من أجل تعليم الناس. وإثراء حياتهم بالمعارف والعلوم النافعة. وفي قول الله تعالي "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ" وقوله تعالي: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا - وقوله تعالي- وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيري -. أي الخبراء والمتخصصين كل في مجاله. وقد ورد عن نبينا محمَّد عليه الصلاة والسلام ما يؤكِّد حب التخصص فنجد مثالاً علي ذلك قوله صلي الله عليه وسلم: "أقضي أمتي عليُّ بنُ أبي طالب وأَفَرْضُهمْ زَيْدُ بنُ ثَابِتي وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبي وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلي" والغريب في الأمر أن كل هؤلاء الصحابة كانوا يستطيعون أن يفعلوا كل تلك الأعمال ولكنه صلي الله عليه وسلم كان يريد أن يعلمنا أن التخصص وإعطاء الأمر لأهله سمة أساسية من سمات مجتمع الإسلام. والتَّخصص كان أيضا في الألقاب فكان لكل واحد من الصحابة لقبه الذي يميزه عن غيره فكان ابوبكر "الصديق" لقبا له وعمر لقب بالفاروق وعثمان لقب "ذو النورين" والرجل الذي تستحي منه الملائكة" وحمزة لقب "أسد الله وأسد رسوله" وخالد لقب "سيف الله المسلول" وقد احترم الأخصائيون بعضهم بعضا ففي صحيح البخاري أن النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ. فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَي سَارِيَةي مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ. حَتَّي تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ. فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدي مِنْ بَعْدِي" قَالَ فَرَدَّهُ خَاسِئًا". ولقد شدد الإسلام في عقوبة من يتولي أمرا غير تخصصه فيضر غيره يقول الشيخ سيد سابق رحمه الله: لم يختلف العلماء في أن الإنسان إذا لم تكن له دراية بالطب. فعالج مريضا فأصابته من ذلك عاهة. فإنه يكون مسئولا عن جنايته. وضامنا بقدر ما أحدث من ضرر. لأنه يعتبر بعمله هذا متعديا. ويكون الضمان في ماله. قال رسول الله: "من تطبب. ولم يعلم منه قبل ذلك الطب. فهو ضامن". بل وصل الأمر بالفقهاء أن دعوا إلي الحجر علي المفتي الجاهل. والطبيب الجاهل. والمكاري "البناء" الذي لا يحسن عمله. وعللوا ذلك فقالوا: لأن المفتي يفسد علي الناس دينهم بفتواه الجاهلة. والطبيب غير المتخصص يفسد علي الناس صحتهم. والمكاري غير المتخصص يفسد علي الناس بيوتهم ومساكنهم. وهو كما أخبر به النبي في شأن الرجل الذي اغتسل وبه جراحة "فعَنْ جَابِري قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَري فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرى فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَي الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَي النَّبِيِّ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالْبَيْهَقِيّ. أي كانوا سببا في قتله. فدعا عليهم بالقتل. فالجزاء من جنس العمل.