* يسأل منار شاكر من الإسماعيلية: هل العلمانية من العلم. وهل تتعارض مع الإسلام؟ ** يجيب الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق: إن نسبة العلمانية إلي العلم أو العالم ليست علي قياس لغوي وهي ترجمة للكلمة الأفرنجية "لاييك" أو "سيكولاريسم" علي أي وجه تكون. وفي أي ميدان تطبق. وعلي أي شيء تطلق. وهي نزعة أو اتجاه أو مذهب اعتنقه جماعة في أوروبا في مقابل ما كان سائداً فيها في العصور المظلمة. التي تسلط فيها رجال الدين علي كل نشاط في أي ميدان. مما تسبب عنه ركود وتخلف حضاري بالنسبة إلي ما كان موجوداً بالذات عند المسلمين من تقدم في كل المجالات. كان معتنقو هذا المذهب في أول الأمر في القرنين السابع عشر والثامن عشر قد وقفوا من الدين موقف عدم المبالاة به. وتركوا سلطانه يعيش في دائرة خاصة. واكتفوا بفصله عن الدولة. ومن أشهر هؤلاء "توماس هوبز" الإنجليزي المتوفي سنة 1679م "جون لوك" الإنجليزي المتوفي سنة .1704 "ليبنيتز" الألماني المتوفي سنة 1716م. "جان جاك روسو" المتوفي سنة .1778 وفي القرن التاسع عشر كانت المواجهة العنيفة بين العلمانية والدين. وذلك لتغلغل المادية في نفوس كثير ممن فتنوا بالعلم التجريبي. إلي حد أنكروا فيه الأديان وما جاءت به من أفكار. واتهموها بتهم كثيرة كرد فعل للمعاناة التي عانوها من رجال الدين وسلطانهم في زمن التخلف الذي نسبوه إلي الدين. ذلك الدين الذي كان من وضع من تولوا أمره. والدين الحق المنزل من عند الله بريء منه. ومن أشهر هؤلاء المهاجمين "كارل ماركس" الألماني المتوفي سنة 1883م "فريدريك أنجلز" الروسي المتوفي سنة 1895م. "فلاديمير أوليانوف لينين" الروسي المتوفي سنة 1942م. هؤلاء لم يقبلوا أن تكون هناك سلطة ثانية أبداً. حتي لو لم تتدخل في شئون الدولة. وإن كانت هذه العداوة للدين بدأت تخف. وتعاونت السلطات السياسية والاستعمارية علي تحقيق أغراضها. لقد تأثر بهذا المذهب كثيرون من الدول الغربية. وقلدها في ذلك بعض الدول الشرقية. ووضعت دساتيرها علي أساس الفصل بين السياسة والدين مبهورة بالتقدم والحضارة المادية الغربية. اعتقاداً أنها وليدة إقصاء الدين عن النشاط السياسي والاجتماعي. إن العلمانية بهذا المفهوم. وهو عدم المبالاة بالدين. يأباها الإسلام. الذي هو من صنع الله وليس من صنع البشر. فهو منزه عن كل العيوب والمآخذ التي وجدت في الأديان الأخري التي لعبت فيها الأصابع وحرفتها عن حقيقتها. ذلك لأنه دين الإصلاح الشامل. الذي ينظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه. ويوفر له السعادة في الدنيا والاخرة علي السواء. فهو كما يقال دين ودنيا أو دين ودولة. أو عبادة وقيادة. ومن مظاهر ذلك ما يأتي: 1 عقائد الإسلام ليست فيها خرافات ولا أباطيل. فهو يقدس العقل ويأمر بتحكيمه إلي حد كبير. 2 الإسلام ليس مغلقاً علي معلومات معينة يتلقاها بنصها من الوحي. بل هو كما يقال: دين منفتح علي كل المعارف والعلوم مادامت تقوم علي حقائق وتستهدف الخير. 3 الإسلام يمقت الرهبنة التي تعطل مصالح الدنيا. ويجعل النشاط الذي يبذل لتحقيق هذه المصالح في منزلة عالية. لأنه جهاد في سبيل الله. والتاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين. فهو دين يعملا لدنيا والاخرة معاً. 4 الإسلام يقرر أن السلوك الاجتماعي مقياس لقبول العبادة. فلِمَ لَمْ تُثمر عبادته. بمفهومها الخاص من العلاقة بين العبد وربه. استقامة في السلوك فهي عبادة مرفوضة لا يقبلها الله "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون". 5 الإسلام ليس فيه كهنوت يتحكم فيه بعض من الناس في مصائر الناس بإدخالهم الجنة. أو حرمانهم منها. بناء علي اعتبارات خاصة. فمدار ذلك علي العقيدة الخالصة والعمل الصالح. وليس المشتغلون بعلوم الدين لا معلمين ومرشدين. والأمر متروك بعد ذلك لمن شاء أن يستفيد أو لا يستفيد بالتطبيق. وقد يكون المتعلم أقرب إلي الله من معلمه. بالتزام الطريق المستقيم الذي سمه الله لهم جميعاً. فما دامت العبادة لله وحده فهو وحده الذي يقبل منها ما يشاء. 6 الإسلام ليس فيه سلطة مقدسة مستمدة من سلطة الله. وليس في البشر من هو معصوم من الخطأ. إلا من اصطفاه الله لرسالاته. والحكم من ذوي السلطان ليس لذواتهم. بل الحكم للدين أولاً وآخراً. فكل شيء فيه اختلاف رأي يرد إلي الله وإلي الرسول أي الكتاب والسُنَّة. 7 مباديء الشريعة تستهدف تحقيق المصلحة. فإذا لم يوجد نص واضح في أمر تعددت فيه وجهات النظر من أهل النظر وكان يحقق المصلحة العامة كان مشروعاً. وبخاصة أمور الدنيا فالناس أعلم بشئونها. 8 الإسلام دين تقدم وتطور وحضارة. ليس جامداً ولا متمسكاً بالقديم علي علاته فهو ينهي عن التبعية المطلقة في الفكر. أو السلوك الذي يظهر بطلانه. بل يقرر أن الله يبعث مجددين علي رأس كل قرن. يوضحون للناس ما أبهم. ويصححون له ما أخطأوا فيه ويوائمون بين الدين والحياة فيما تسمح به المواءمة. لأنه دين صالح لكل زمان ومكان. ومن مباديء التربية المأثورة عن السلف: لا تحملوا أولادكم علي أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. والمراد بالأخلاق العادات التي تقبل التغيير. أما أصول الأخلاق فثابتة.بهذا وبغيره نري أن الإسلام يرفض العلمانية. وأن المسلمين ليسوا في حاجة إليها. وإنما هم في حاجة إلي فهم دينهم فهماً صحيحاً. وتطبيقه تطبيقاً سليماً كاملاً كما فهمه الأولون وطبقوه. فكانوا أساتذة العالم في كل فنون الحضارة والمدنية الصحيحة. وضعف المسلمين وتأخرهم ناتج عن الجهل بحقائق الدين وبالتالي عدم العمل بما جاء به من هدي. وبالجهل قلدوا غيرهم في مظاهر حضارتهم. وآمنوا بالمباديء التي انطلقوا منها دون عرضها علي مباديء الإسلام. لأنهم لا يعرفون عنها إلا القليل. ولئن رأينا بعض دول المسلمين الآن قد نقلوا معارف غيرهم ممن يدينون بالعلمانية. فليس ذلك دليلاً علي أنهم آمنوا به. وإنما هو للاطلاع علي ما عندهم حتي يعاملوهم علي أساسه. وإذا كانوا قد قبسوا من مظاهر حضارتهم فذلك للاستفادة من نتائج علمهم وخبرتهم فيما يقوي شوكة المسلمين ويدفع السوء عنهم. والتعاون في المصالح أمر تقتضيه طبيعة الوجود. وهو مشاهد في كل العصور علي الرغم من اختلاف العقائد والأديان. والمهم ألا يكون في ذلك مساس بالعقيدة. أو بالأصول المقررة وأن يستهدف الخير والمصلحة.