كما تمثل حالات الانفلات الأمني تهديدًا لأمن المجتمع واستقراره. فإن مختلف المجتمعات ولا سيما العربية والنامية تشهد نوعًا آخر من الانفلات لا يقل ضررًا ولا ضراوة عن الانفلات الأمني وهو ما يمكن أن نطلق عليه ¢الانفلات الإعلامي¢. فتهديد أمن الناس لا يقتصر علي انتشار الجريمة. وغياب عوامل الأمان في الشارع فحسب بل إن غزو عقول الناس بأفكار منحرفة. وإطلاعهم علي قيم وعادات وسلوكيات لا تتفق وثوابتهم القيمية والأخلاقية يمثل تهديدًا أخطر ليس لأمنهم فقط بل لهويتهم ولوجودهم بالأساس!! والمجرمون الذين يملأون الشوارع ويهددون أمن الناس ربما يقل خطرهم عن أولئك الذين يقتحمون بيوتنا دون استئذان ليغيروا القيم ويبدلوا الأذواق ويهددوا هوية الناس ويشوهوا ثقافتهم. وذلك من خلال إعلام رديء تتم صياغة رسائله لتحقيق مزيد من الأرباح لأصحاب وسائل الإعلام وملاكها بصرف النظر عن أي معايير أخلاقية. لقد أدت ثورة الاتصال والمعلومات إلي تحول العالم إلي مجرد ¢غرفة معيشة¢ صغيرة يؤثر كل جزء ويتأثر بما يحدث في الأجزاء الأخري. وكان لذلك ايجابيات عدة لا يمكن انكارها إذ انفتح المواطنون علي ثقافات الشعوب الأخري. وتحقق لهم التواصل الإعلامي الفعال مع شركائهم في كوكب الأرض مما أثري من وعيهم وثقافتهم. وأسهم في حوار فاعل ومؤثر بين الحضارات. الا أن تأثير هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية جاء بالعديد من التداعيات السلبية التي أسفرت عن حالة من الانفلات والتدهور في العديد من الدول النامية التي لا تزال مستقبلة لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات ومستهلكة لها دون مشاركة فاعلة في صناعتها. هذا الانفلات والتدهور يمثل خطرًا حقيقيًا علي ثقافة وهوية تلك المجتمعات ربما تعجز عن مواجهته كل قوي الأمن التي يمكنها مواجهة الجريمة والمجرمين. ويمكننا الإشارة إلي بعض مظاهر هذا الانفلات الإعلامي الذي تشهده مجتمعاتنا لاسيما في مجال القنوات الفضائية والانترنت فيما يلي: * التزايد المتسارع في أعداد القنوات الفضائية التي تخترق الحدود دون عوائق لتخاطب الجماهير في مختلف أنحاء العالم مباشرة ودون قيود أو مراقبة من جانب حكوماتها. ولقد أدت عوامل سياسية واقتصادية وفنية مختلفة إلي هذا التزايد في أعداد تلك القنوات .. فالمنطقة العربية علي سبيل المثال تتعرض اليوم لنحو الف قناة فضائية ناطقة باللغة العربية سواء من داخل المنطقة ومن خارجها. وتتنوع هذه القنوات في محتواها بين السياسية والرياضية والفنية والأفلام وغيرها. كما تختلف في ملكيتها بين قنوات حكومية وقنوات خاصة وأخري مجهولة الهوية ومصادر التحويل. ولقد أدت هذه الحالة الاستثنائية في تاريخ المنطقة العربية والإسلامية إلي تغول نافذ للقنوات الفضائية يقتحم بيوتنا ويهدد ثقافتنا وثوابتنا دون رحمة. وهو أمر تزداد خطورته مع انتشار الأمية وتواضع المستوي الثقافي لمعظم شعوبنا في ظل تراجع مستوي وسائل إعلامنا المحلية التي تعجز عن المنافسة مع تلك الفضائيات الوافدة. * يرتبط بهذه النقطة. نقطة أخري تتعلق بعدم وجود ضوابط أو مواثيق تحكم عمل هذه القنوات الفضائية وما تقدمه من مضامين. وتمثل المنطقة العربية حالة استثنائية في كم ما تتلقاه من قنوات فضائية وانفلات المحتوي الذي تقدمه. فكثير من القنوات الدينية التي حصلت علي تراخيص للعمل في مجال الدعوة حادت عن الطريق. وانخرطت في ممارسة دور سياسي وتحولت بالتدريج إلي قنوات سياسية تساند فصيلاً محدداً وتؤلبه ضد الفصائل الأخري. وبمتابعة أداء تلك القنوات نجد أنها لم تحقق سوي المزيد من الفتنة والاحتراب بين أبناء المجتمع الواحد. فلا هي أدت دورًا سياسيًا محترمًا محايدًا يخدم الصالح العام. ولا هي حافظت علي دورها الدعوي المنشود. وتمثل القنوات الخاصة النسبة الأكبر مما يشاهدة الجمهور العربي والإسلامي. وهي قنوات تعمل في إطار نظريات العرض والطلب. لتحقيق أكبر قدر من الأرباح بعيدًا عن مقولات الدفاع عن الهوية. وحماية الثقافة والزود عن التراث. وبدت المنافسة بين هذه القنوات حتي العربية منها غاية في الشراسة التي تستبعد معها أي محاولات للتعاون أو التنسيق. * غياب مواثيق العمل الإعلامي في مختلف الدول العربية والإسلامية. فالمتابع للشأن الإعلامي العربي لا يجد أي قوانين تنظم عمل القنوات الفضائية وتقيم أدوارها. وعلي سبيل المثال فإن القنوات الفضائية في مصر تخضع لوزارة الاستثمار التي تمنحها تراخيص البث. وهو واقع يعكس طبيعة النظر لتلك القنوات بوصفها مشروعًا تجاريًا أو استثماريًا وليس عملاً إبداعيًا يؤثر في وجدان الناس ويشكل أذواقهم وسلوكياتهم ولعل نفس الوضع موجود بدرجة أو بأخري في الدول العربية الأخري مما أدي لحالة من التسيب والانفلات في بث القنوات الفضائية وما تقدمه من مواد وبرامج ففي ظل غياب القانون لا يستطيع أحد أن يحاسب من يخرج عن الآداب العامة. ولقد أصبحت بعض القنوات الفضائية العربية أقرب ما تكون ¢بمصطبة¢ يتحدث من خلالها صاحب القناة في مختلف الموضوعات ويعرف وجهات نظره. ويوجه اتهاماته وانتقاداته لكل من يخالف آراءه دون مراعاة لقوانين ومواثيق العمل الإعلامي. وللحديث بقية العدد المقبل بمشيئة الله