لو أنك أمعنت النظر فيما كتبه آباء التجديد الديني خلال القرنين الماضيين فلن تجد فيه دعوة للخلافة أو إحياء الجزية وملك اليمين.. ولن تجد حديثاً عن أهل الذمة وقتل الأسري وسبي النساء وغير ذلك مما ينسب للتنظيمات والجماعات المستحدثة التي تعبر عن الإنغلاق والإنعزال بأكثر مما تعبر عن الإسلام. سوف تجد عند هؤلاء الآباء حديثاً قوياً وموصولاً عن تحرير العقل المسلم من الأساطير والخرافات وإخراجه من دائرة الجهل والجمود التي استمرت قرونا طويلة حتي يلحق بركب الحضارة مثلما كان في صدر الإسلام.. وسوف تجد أيضا دعوات لبناء الشخصية الإسلامية علي أسس معاصرة تقوم علي العلم والحرية والانفتاح والتعددية وقبول الآخر ورفض الاستبداد السياسي والديني. انشغل آباء التجديد - من الطهطاوي إلي الأفغاني ومحمد عبده إلي الغزالي والشعراوي- بالمباديء والأسس.. ولم يتركوا أحاديث الخلافة والجزية وملك اليمين عن تقصير وإهمال.. وإنما عن إدراك بأن هذه مصطلحات زمانها. وليست من ثوابت الدين وأركانه ولا من قواعده وأعمدته ومقاصده.. ومن ثم فلا تثريب علينا إن استخدمنا مصطلحات زماننا. وعندما سقطت الخلافة "العثمانية" عام 2419 وبكاها بعض من شعرائنا ومثقفينا -شوقي مثلاً- لم يبكوا فيها نظاماً إسلامياً وضعه الله ورسوله.. ولم يبكوا فيها ركنا دينيا انهدم.. وإنما بكوا رمزًا لوحدة الأمة التي انفرط عقدها.. ومعلوم أن الخلافة العثمانية كانت قد انتهت إلي حالة من الوهن والتخلف والاستبداد لا يشرف الإسلام أن تنتسب إليه.. فضلاً عن أنها لم تكن تعبر عن جميع الشعوب الإسلامية. الأهم من الشكل ومن الاسم والمصطلح المضمون.. ومن ثم كان انحياز المجددين العظام إلي ضرورة بناء دولة ديمقراطية دستورية تحترم حرية مواطنيها وكرامتهم.. وتنقذهم من الفقر والجهل والمرض والاستبداد والتخلف.. وليس بالضرورة أن يتم ذلك باسم الخلافة.. وإنما باسم "الدولة الوطنية".. وحينما تنضج الشعوب الإسلامية وترتقي سوف تتجه تلقائياً إلي الوحدة بإرادتها الحرة.. ليس في صورة الخلافة التقليدية وإنما في صورة معاصرة.. ربما تكون أقرب إلي نموذج الاتحاد الأوروبي. وهكذا.. لم يفكر المجددون في الخلافة ولكن فكروا في الديمقراطية التي تحقق الشوري والحرية ومصالح الشعب وتضمن مساءلة الحكام وفصل السلطات وتجعل الشعب صاحب القرار ومصدر السلطة. ولم يستخدم المجددون مصطلح "أهل الذمة" الذي أسيء فهمه كثيرًا رغم أنه مصطلح معجز يعبر عن احترام وتقدير لمن دخل في حماية وعهد الإسلام ورسول الاسلام من أهل الكتاب.. ولكن استخدموا "المواطنة" كمصطلح معاصر يعبر عن المساواة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات مهما اختلفت عقائدهم الدينية وأعراقهم وألوانهم. كان مصطلح "أهل الذمة" أكبر ضمان لحماية اليهود والنصاري الذين دخلوا تحت لواء الدولة الإسلامية الوليدة في المدينةالمنورة.. وبتعبير آخر دخلوا في ذمة الرسول صلي الله عليه وسلم وعاهدوه.. وقد قال عنهم: "من آذي لي ذمياً فقد آذاني".. وقال: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". لكن الزمن تغير الآن في إطار الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية التي لم يعد فيها أحد في ذمة أحد.. صار كل الناس مواطنين متساوين.. بما يحقق المباديء والمقاصد التي وضعها الرسول.. حتي لو تغير المصطلح من "الذمي" إلي "المواطن". الجزية أيضا من المفاهيم الإسلامية التي أسيء إليها.. ربما لأنها مصطلح ضارب في التقادم.. فهي لم تكن إتاوة تفرضها الدولة الإسلامية علي غير المسلمين من مواطنيها ظلماً وعدواناً لأنهم علي غير دينها.. وإنما كان يدفعها المسيحي واليهودي للدولة مقابل أن توفر له الحماية والأمن دون أن تفرض عليه أن يشارك في جيشها.. ولا أن يحمل السلاح دفاعاً عن أرضه وبيته.. كما كانت تدفعها الدول المناوئة لضمان ولائها والتزامها بالعهود والمواثيق. وقد أعفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصاري نجران من الجزية عندما أصروا أن يشاركوا في الجيش بلواء أسموه "لواء النصاري".. كما أعفي كبار السن وغير القادرين.. وهو ما يعني أن الجزية لم تكن ركناً من الدين.. ومن ثم فلا غضاضة في أن نستخدم مصطلحات زماننا المعاصرة.. فقد جمع جيش الدولة الوطنية بين المسلم والمسيحي.. وامتزجت دماؤهما في الدفاع عن وطنهما المشترك.. وصار طبيعيا أن يتساوي المسلم والمسيحي في دفع "الضريبة" للدولة بدلاً من الجزية.. فالعبرة بالمباديء والمقاصد وليس بالأسماء والمصطلحات. وعلي هذا النحو تحدث آباؤنا المجددون: الديمقراطية بدلاً من الخلافة.. والمواطنة بدلاً من أهل الذمة.. والضريبة الوطنية بدلاً من الجزية. 1⁄4 1⁄4 وللحديث بقية..