أكد علماء الدين أن القضاء علي الفساد لا يحتاج إطلاق استراتيجيات قومية بقدر ما يحتاج تفعيل قوة القانون وتطبيقه علي الجميع دون استثناء لأحد. مشددين علي أن إصلاح مؤسسة القضاء هي أهم عامل لنحسار الفساد ومن ثم اقتلاعه بحذر. بداية أعرب الدكتور عبدالرحمن جيرة الوكيل السابق لكلية أصول الدين بالقاهرة عن حزنه الشديد لحالة الفساد التي وصل إليها مجتمعنا. مؤكداً أن الحل الوحيد للقضاء مع الفساد واقتلاعه من جذوره ليس بإطلاق الاستراتيجيات والخطط القومية إنما بالإصلاح الحقيقي لمؤسسة الحكم والفصل بين الناس في النزاعات فإذا بدأنا بهذا الإصلاح بأن يتساوي الجميع أمام القانون ونحاسب أي إنسان يقوم بأعمال ويعاقب من يقصر سننجح في فترة وجيزة بتحجيم الفساد ومن ثم القضاء.. فالإصلاح الحقيقي للمجتمع يبدأ بالمحاسبة وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يحاسب عماله عن كل ما يفعلونه فقد كان يحاسب الولاة والحكام حتي جامعي الصدقات كان يحاسبهم وكلنا يعرف الواقعة الشهيرة حينما جاء أحد العمال يقول للنبي صلي الله عليه وسلم : "ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول هذا لك وهذا لي هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينتظر أيهدي إليه أم لا؟ فهذا حساب اقتصادي أرسي دعائمه النبي صلي الله عليه وسلم ولابد أن نسير علي نهجه وليس هذا فحسب فقد كان صلي الله عليه وسلم يحاسب العمال والولاة والقضاة في الهدايا التي تهدي إليهم ويقول عنها إنها "سُحت".. فالعالم أو الموظف الذي يهدي إليه هدية لا تكون بصفة الثراء والتحاب إنما تكون للحصول علي منفعة أو أن يأخذ الهادي حق غيره أو حق الدولة وهذا يظهر جلياً في الضرائب التي تشبه الزكاة كأن يذهب عمال الضرائب لتقدير ضرائب المحلات والمؤسسات المختلفة وهناك حد أقصي وحد أدني للتقدير حسب طبيعة النشاط فيمنحه صاحب العمل بعض الأموال لإعطائه التقدير الأقل وهو هنا بهذه الأموال التي حصل عليها يضيع علي الدولة أموالاً كثيرة كان يمكن أن تنفقها مع مؤسسات كثيرة تعاني الاهمال والقصور كالصحة والتعليم. إصلاح الولاة شدد د.جيرة علي أن إصلاح الوالي هو صورة معبرة عن صلاح من ولاه فإذا كان الوالي لا يرضي بقبول الهدايا ويرفض الرشوة فهذا يعني أن الذي ولاه اختاره لأنه أمين علي ماله.. لذا مع من يريد مؤسسات الدولة أن يتابع الموظفين ويحاسبهم بانتظام علي ما يقومون به من مهام ولا مانع من إيجاد وسائل غير مرتبة للرقابة فالهدف مقاومة الفساد ومنع جمع المال من حرام وللأسف نحن نعيش واقعاً مؤسفاً أصبح الفساد بكل صوره وأشكاله جزءًا لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع لذا يصعب مقاومته بحملات ودعوات إعلامية كما أن ذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة لم يعد له جدوي فخطب الخطباء وما ينطق به الوعاظ من تحذيرات لا يحرك ساكناً لهذا المجتمع ولا مفر من أن تتحرك علي وجه السرعة مؤسسات المحاسبة في الدولة وتقوم بدورها دون استثناء لأحد فالنبي يقول: "إنما هلك الذين من قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ويقول كذلك صلي الله عليه وسلم : "من استعملناه علي عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" والغلول هنا بمعني الخيانة أو السرقة وهي تعادل الرشوة. أسباب تراكمية ولفت د.جيرة: إلي أن أسباب الفساد تراكمية ترجع إلي عقود طويلة حين تهاون موظفو الدولة في القليل وتساهلوا في الأخطاء اليسيرة فكان نتيجة ذلك أن تجرأوا علي ارتكاب الأعمال الكبيرة.. فالرشاوي عندنا بدأت ب "شرب الشاي" أو ما عُرف الإكرامية ثم تطورت لأكبر من هذا ولم يستنكرها أحد أو يمقتها.. فالفساد عندنا نوعان ظاهري وباطني الظاهر كما قلنا يتمثل في الإكرامية والشاي وهذا تآلف معه المجتمع وصار عُرفاً اجتماعياً وجزءاً أصيلاً عندما يقوم بإنهاء أي خدمة بسيطة في أي مصلحة حكومية.. أما النوع الآخر وهو الباطن وهو الأشد فتكاً علي المجتمع وخطورة كان يسرق أحد أموال الدولة ويعلن عن تأسيس مشاريع أهمية وفي الحقيقة لا وجود لهذه المشاريع كتلك الحادثة التي نشرت بإحدي الجرائد القومية حيث تم الكشف عن عمال مساجد يحصلون علي مرتبات من الأوقاف دون أن يكون لهذه المساجد أي وجود علي أرض الواقع وهو الذي يهدد الدولة ويقضي عليه إن لم توجد وسيلة لتحجيمه وعلاجه لكن أري أنه يصعب علاجه إلا إذا فعلنا المحاسبة والعقاب لكل منحرف لكن الفساد الظاهري أمره سهل ويمكن علاجه بتحسين أجور العمال والموظفين. ولخص دكتورة جيرة علاج مشكلة الفساد في ثلاث جمل بسيطة بإصلاح الأنفس والتربية علي الأخلاق النبيلة بإصلاح المحاسبة فإذا نجحنا في ذلك لن تطلق استراتيجيات كلامية لا تغني ولا تسمن من جوع.. لذا كان الأولي برئيس الوزراء أن يتجه وتتجه معه الدولة كلها هذا التوجه بدلاً من إطلاق كلام شفوي لا فائدة من ورائه. حل جذري ووافقه الرأي الدكتور محمد عوض الأستاذ بكلية أصول الدين قائلاً: لقد وضع الإسلام حلاً جذرياً لكل مشاكلنا النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية. فالتربية السليمة للنشء منذ الصغر ويقظة الضمير وإصلاح النفس وتزكيتها وتقوية الوازع الديني لدي الناس خاصة إذا كانت أعمالهم ترتبط بمصالح العباد فهذا كفيل بالقضاء تماماً علي الرشوة في أي مكان و اقتلاعها من جذورها وقد لخص النبي صلي الله عليه وسلم هذا حينما قال: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". فكل إنسان مطالب بأن يراعي الله ويتقيه فيما يسند إليه من أعمال ويتساوي في هذا رئيساً ومرؤوساً وزيراً كان أو خفيراً فكل من علي وجه الأرض مطالب باتقان عمله وأدائه علي أكمل وجه وقد قال صلي الله عليه وسلم : "كلكم راعي وكلكم مسئول عن رعيته الإمام راعي مسئول عن رعيته والرجل راعي ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها".. كما أن الحكمة والكياسة تقتضي من العباد مراقبة الله عز وجل في كل عمل يؤدونه لأنهم قد يتهربون من أعين الناس ويتحايلون علي القانون لكنهم لن يستطيعوا الهروب من رؤية الله لهم وإطلاعه علي ما يفعلونه. أضاف: الفصل الوحيد في القضاء علي الفساد ليس بإطلاق الاستراتيجيات وسن القوانين وما أكثرها عندنا إنما الحل الوحيد لتلافي هذا المرض الذي انتشر في كل مؤسسات المجتمع يكون بأن يصلح كل إنسان نفسه ويعلم أن الله رقيباً عليه إذا تحقق هذا الشرط لن يتورط أي إنسان علي وجه الأرض بفساد أو رشوة وأشار د.عوض إلي أن أهل الفساد والإفساد يكون بضعف والرقابة والخشية من الله عز وجل وفي هذا الشأن يقول الشاعر: إذا ما خلوت الدهر يوماً .. فلا تقل خلوت لكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة.. .. ولا أن ما تخفيه عنه يغيب. فإذا كان بعض الناس يحسبون أن رقابة القانون وعين البشر تغيب عنهم وتغفل بليل أو نهار فإن رقابة الله وعينه لا تغيب عنهم أبداً.. فنحن في أمس الحاجة إلي إعادة تشكيل عقل ووجدان الناس علي تقوي الله ورضوانه. منا يجب علينا أن ندقق النظر في اختيار القيادات فليس كل صاحب شهادات جدير بأن يتولي منصباً قيادياً إلا إذا كان صاحب أخلاق رفيعة ويخشي الله ويتقن عمله فكم من مسئول حصل علي أعلي الشهادات والمؤهلات وهو في ذات الوقت عاري عن الأخلاق والمثل العليا لهذا رأينا الفساد لا حصر له ولهذا يقول المولي وجلَّ وعلا "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" فما نحن فيه من فساد وإفساد وخروج علي القيم والمثل إنما مرده ومرجعه إلي القصور والتقصير في تربية وصناعة الرجال علي هذه القيم التي أرساها النبي صلي الله عليه وسلم فالأصل في الدنيا الصلاح والإصلاح ولقد خلق الله عز وجل الناس لإعمار الأرض بالأعمال الصالحة وعندما يحدث الفساد فهذا شرود وانحراف عن أصل وطبيعة الأشياء التي خلقها الله عز وجل ولابد من إصلاح هذا الانحراف كما سبق وأشرنا لا من الفساد الكل يتحمل تبعاته ولا يقتصر في شخص دون آخر كما أن المنظومة كلها تفسد بفساد أبنائها وقد جاء في التاريخ الإسلامي "صنفان من الناس إذا صلي صلي الناس وإذا فسد فسد الناس: الأمراء والعلماء.. لذا أطالب الجميع بتقوي الله ومراقبته إذا أردنا فعلاً القضاء علي الفساد.