تمر الأيام والسنون تحمل أحداثا تتأبّي علي النسيان لما ترتب عليها من آثار ضخمة حوّلت البشرية إلي مسار جديد لتبدأ حقبة تاريخية مختلفة في أهدافها وغاياتها. وفي طرق الوصول إلي تلك الغايات. وفي تفجير كوامن الطاقات. تواقة لمستقبل تشعر فيه النفس بالعزة والأمن وراحة البال وهي في هذا التحول الجذري تبذل أقصي ما في وسعها من تضحيات استجابة للسنن الكونية التي تحتم أن لا نصر إلا مع الصبر والبذل. ومن أهم هذه الأحداث هجرة النبي الخاتم صلي الله عليه وسلم من مسقط رأسه وموطن أهله ومهبط وحي ربه. وفيها تجاوبت سنن الكون مع معونة الله: استقصي النبي العظيم فيها كل وسائل الحذر والتدبير المحكم ثم اعتمد علي القويّ المقتدر فيما لا يستطيعه البشر: هيأ الراحلة والصاحب والبديل. وفاجأ من يترقب الفتك به بخروجه عليهم من نفس الباب اعتمادًا علي معونة رب الأرباب. فأغشاهم فهم لا يبصرون. واختار الدليل الماهر بطرق الصحراء من غير أتباعه تقديرًا للكفاءة والخبرة. وسلك طريقا غير مأهول. في اتجاه جنوبي غير متوقع. ودخل غارا له مواصفات ربانية لا يري السائر من فيه إلا إذا نظر تحت قدميه. وبه فتحات للتهوية. ولا يسع غيره وصاحبه الصديق. إنه عبارة عن صخرة مجوفة يقيم فيها ثلاثة أيام يأتيه فيها الطعام والشراب والأنباء بترتيب خاص. وتمر عليه كتائب البحث عنه طامعة في المكافأة المجزية فيؤيده الله بجنود غير مرئية وينزل عليه وعلي صاحبه السكينة وراحة البال. لقد قام بكل ما هو مطلوب منه بشريا. وارتفع بإيمانه وعزمه وتضحيته إلي مستوي يلتقي فيه بعون الله وهذا هو المنهج والطريق. ولا طريق سواه.. ويخرجان من الغار متجهين إلي المهجر في صحراء قاحلة ويصبران علي العطش فيسقيهما الله من شاة عجفاء عند أم معبد لم تخرج منها قطرة لبن قبل مسح رسول الله صلي الله عليه وسلم لضرعها. ويدركه الفارس المغوار سراقة بن مالك متشوقا لما وعدت به قريش لمن يأتي بمحمد حيا أو ميتا. فتتأبي عليه فرسه وتسوخ أقدامها في الرمال. توجيهات نبوية تصحح مسيرتنا : يدخل صلي الله عليه وسلم المدينة وسط ترحاب غير مسبوق ممن بايعوه. وفي حسرة وحقد من اليهود والمنافقين.. ويشتري مكان المسجد من ماله الخاص رافضا تبرع أصحابه وأقربائه. ويشترك في بنائه بنفسه ويحوله إلي مقر للسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والعسكرية ومنطلق للأخوة الإيمانية. المعتمدة علي الخضوع لرب البرية والتلذذ بالمدارسة القرآنية. والصلاة الجماعية وتحصيل العلوم الإسلامية. والتدريب علي إصابة الهدف وإتقان العمل. وتنظيم الوقت والإحساس بالمسئولية.. والتعايش مع المخالفين. وتفويت الفرص علي المنافقين والمفسدين. وفي سبيل ذلك جاءت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين لتتحقق وحدة الصف ووحدة الفكر والهدف. وتبعتها وثيقة العهد مع غير المسلمين ضامنة لهم حق المساواة في الحقوق والواجبات فلهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين. لكن الفيصل في القضاء بين المتخاصمين هو رسول رب العالمين بما علمه الله من الوحي الحكيم.. وبعد أن رتب البيت من الداخل انطلق في ثقة وعزة وعزم لا يلين» ينشر النور والهدي. ويدعو إلي الله بالحكمة والفطنة والفصاحة والبلاغ المبين. مزيلا لعقبات الشرك والطاغوت الذي يقف حجر عثرة في طريق تحرير البشر من سيطرة الجبارين والطغاة. فكانت الغزوات التي بذل فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه الغالي والنفيس حتي التقوا بنصر الله وعم نور الإسلام آفاق الأرض. لماذا اختارها عمر بدءًا لتاريخ الإسلام ؟ إدراكا لتلك الآثار الباهرة للهجرة المباركة ولأن الله جعلها نصرا لرسول الله في قوله: "إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ" "التوبة:40" اختارها الفاروق بدءًا لتاريخ الإسلام الزاهر عن وعي وبعد نظر وفهم راق لتعاليم شرعنا الحنيف إذ ربطه بالشهور القمرية التي جعلها المولي مواقيت للناس والحج "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمي يَعْلَمُونَ" "يونس:5" وبهذا كان الصيام في رمضان. والحج في ذي القعدة وذي الحجة. والأشهر الحرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةى حُرُمى ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ" "التوبة:36". ولقد عشنا ورأينا في ليبيا من يبدأ تاريخ الإسلام بوفاة نبي الإسلام ورأينا في معظم الدول الإسلامية من يعتمد التاريخ الشمسي الميلادي حتي نسي شبابها أسماء الشهور العربية! مطلب سهل وضروري : هل نطمع ونحن نسعي إلي تأكيد الهوية الإسلامية أن نعيد للتاريخ الهجري مكانته ؟ . يجب ألا نلتفت إلي ما يثار عليه من غبار حول صعوبة تحديد بدء الشهر ونهايته فقد تقدم علم الفلك وصار الحساب من الدقة بحيث يحدد اللحظة التي تنكسف فيها الشمس أو ينخسف فيها القمر؟ وهل للأمة أن تستوعب دروس الهجرة فتتخذ مما فعله الأسوة الحسنة صلي الله عليه وسلم منهجا لبناء الدولة من جديد غير عابئين بمن يحصرون تفكيرنا وخططنا فيما لدي الغرب والشرق؟ الخلاصة: إن الطريق إلي المجد صبر وكفاح. وعمل وإتقان. وبذل وتضحية. واستمداد لعون الله. وثقة في نصر الله كما كان خير خلق الله "وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَي الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ" "النور:54" صدق الله العظيم.